يَذكر البروفيسور امتياز يوسف، رئيس "معهد التفاهم الإسلامي البوذي" في تايلاند، في محاضرات عديدة، أنه كلّما تحدّث أمام جمهور مسلم بشكل إيجابي بالعلاقات الإسلامية البوذية، وبالقيم المشتركة بين الديانتَين، واجهَته اعتراضات تذكّره بمأساة الروهينجا، الأقلية المسلمة في ميانمار؛ فيضطر إلى التذكير بإدانة العديد من القيادات والرموز الدينية البوذية، كالدالاي لاما، لتلك المجازر والمظالم. ولكن الطريف أن البروفيسور امتياز يقول: إن تلك الاعتراضات تذكّره باعتراضات أخرى تُثار في بعض الأوساط الغربية، بمجرّد أن يتناول متحدّثٌ ما موضوع الإسلام بإيجابية، فيُعترض عليه بقضايا الإرهاب والمرأة، وكأنّه لا يُحتمل أن يُذْكر الآخَر بخير، أو كأنّ الشجرة تغطّي الغابة، أو أن اللحظة الآنيَّة تغطّي التاريخ الطويل والمعقَّد. هناك تاريخ من العيش المشترك والتفاعل الإيجابي بين المسلمين والبوذيين، في جنوب شرق آسيا وشرقها وجنوبها. فالإسلام ديانة آسيوية بامتياز، وحوالَي ثُلثَي المسلمين يعيشون في آسيا، حيث تمثّل البوذية أهم دياناتها.
في لقاءٍ حِواريّ في جامعة الدراسات الشرقية في نابولي، طلب مدير الجلسة من الأستاذة ماريا آنجلا فلا، الرئيسة السابقة للاتحاد البوذي الإيطالي، أن "توضّح موقفها" من أزمة الروهينجا، ومِن تورّط رهبان بوذيين في عمليات الإبادة. كنتُ جالسًا إلى جانبها، فعقّبتُ بعدها متسائلًا: لماذا ننتظر من بوذية إيطالية أن "تدين" أو "تفسّر" سلوكًا بوذيًّا في ميانمار، وكأن للإجرام أو الإرهاب جذورًا "بوذية"؟ لقد رأيتُ جماعات رهبانية بوذية تلتقي معًا لأوّل مرة في لقاءات حِوارية، دُعِيَت إليها من قِبل جهات كاثوليكية. فالبوذية مِثل المسيحية والإسلام، عالم مترامي الأطراف إلى درجة فقدان التواصل بين أجزائه أحيانًا.
أثناء الحرب البلقانية بين الصِّرب والمسلمين في البوسنة، جرى الاعتداء على بعض كنائس الروم الأرثوذكس في لبنان، من قِبل أشخاص متعصّبين، توهُّمًا منهم أن في ذلك تضامنًا مع المسلمين ضد "الأعداء" الأرثوذكس. ولكن، هل أفاد هذا العمل الطائش الضحايا؟ وما ذنب الأرثوذكس اللبنانيين؟
الشيء نفسه يتكرّر اليوم في بعض البلدان الغربية، مع ازدياد ظاهرة الإسلاموفوبيا، بسبب موجة الإرهاب التي ضربت عواصم أوروبية وأميركية. الإرهاب نفسه، الذي يقتل آلاف المسلمين، يسمّم العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي، وهي علاقات شائكة مِن قَبْلُ، بسبب سياسات الهيمنة. فالإسلاموفوبيا تُحقق مخططات الإرهابيين بوعي أو بلا وعي؛ لأنها ترسّخ مناخًا من الكراهية والخوف، يسهم في التضييق على المسلمين وإحباطهم، ومِن ثَمَّ جعْلُهم أكثر عرضة للاقتناص الأصولي المتطرّف، هذا فضلًا عن الأهداف الانتخابية الضيقة لليمين المتطرف، فهناك نوع من التوافق الصامت بين المتطرِّفِين من الجهتَين.
وبالمنطق نفسه، يَحول التضامن مع الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، دون الاعتراف بالمحرقة اليهودية على يد النازية، أو قد يدفع إلى كراهية كل من هو يهودي. ثم إن الاعتراف بجرائم هتلر لا يبرّر الاحتلال الصهيوني، والاستعمال الخاطئ والذرائعي للذاكرة من قِبل بعض اليهود، لا ينبغي أن يجعلني انتقائيًّا في تضامني ورؤيتي للمظالم. الظلم لا يبرّر ظلمًا آخر، وأية محاولة لفرض سُلَّم تفاضليّ لآلام البشر، تبدو لي محاولة فاقدة للمعنى، بل مشارِكة في الظلم.
هذا التوجّه إلى إدانة الآخر انطلاقًا من حادثة تاريخية، أو أزمة آنيَّة، أو حرب تدور رحاها في منطقة من المناطق، يمثّل -ويا للأسف- سلوكًا شائعًا ومتكرّرًا. إنه التعميم الجائر لجزئية سلبية في ديانة أو ثقافة بكمالها. تَضامُنُنا مع المضطهَدين أمر ضروري أخلاقيًّا، وهو تضامن ينبغي أن يتجاوز الإدانة اللفظية، إلى العمل الملموس والمساعدة العينية، وهو تضامن عابر للأديان والثقافات، مع كل مظلوم باعتباره إنسانًا بغضّ النظر عن دينه أو أصله، وإلَّا تَحوّل التضامن إلى عصبية قَبَلية، قد تؤدّي إلى الطائفية والعنصرية. يظهر ذلك في المنظمات الخيرية، التي توزّع المساعدات على أبناء جلدتها أو طائفتها فقط. هذا التمييز البغيض يَنزع من العمل بُعده الإنساني في لحظة صعبة، يكون فيها الضحايا في أمس الحاجة إلى لمسة إنسانية.
"المعاملة بالمثل" قاعدة دبلوماسية مشكوكٌ في أخلاقيتها في أحيان كثيرة، خاصة عندما يُضخَّم هذا "المثل" أو يوضع في غير محلّه. مكافأة الإحسان تكون بإحسان مِثله أو أكبر منه؛ أما جزاء الشر، فيكون حسب مبادئنا الأصيلة، لا بِرَدّات الأفعال العمياء، مصداقًا لقوله تعالى: {ولَا يَجرِمنَّكُم شنآنُ قَومٍ على ألَّا تَعدِلُوا} [المائدة: 8]، فلا يحوّلنا ظُلم الظالمين إلى مجرمين مثلهم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.