خلال السنوات الماضية، أصبحت فكرة الاحتفاء بالتنوع بوصفه مصدر غِنًى، جوهريةً، في العديد من المبادرات والحملات التي أطلَقتُها. وبعد تحرير المَوْصِل من تنظيم داعش، أصبحَت مثلُ هذه المبادرات خطوة حاسمة في ظلِّ تهديدات نهاية التنوع. وفي زيارتي الأولى للمَوصل المحرَّرة، كنتُ أتمشَّى وسط أنقاض المدينة الحديثة التي دمَّرها القصف، وفوق أنقاض القصور والمعابد المندثرة، تحت تلِّ النبي يونس في الساحل الشرقي للنهر. زُرتُ ما تبقَّى من جامع النبيّ يونس المدمَّر، ولاحظتُ أن لوحة وُضعت لإعادة بنائه "كمسجد" من قِبل الأوقاف السُّنِّيّة، وشعرتُ بالفعل بأنّ إعادة بناء هذا المكان الرائع كمسجد، سوف تَختزل تمثيله البديع لثقافات متنوعة. كان هذا مكانًا مناسبًا لإطلاق تخيُّل "عراق آخر ممكن".
لقد عمِل التنظيم خلال فترة سيطرته على الموصل بعد عام 2014، على حفر حزمة من الأنفاق تحت المسجد المدمَّر، ليَصِل إلى قصرٍ آشوريٍّ يعود تاريخه إلى ثلاثة آلاف عام. تفجير التلَّة الأثرية وأعمال الحفر داخلها، كشفت عن أسرار الماضي تحت المسجد التاريخي. وحسب شهادة الآثاريِّ المَوصليّ "حكمت الأسود"، فإن الإنكليز نقبوا في هذه المنطقة منتصف القرن التاسع عشر، ولكن محاولاتهم اصطدمت برفض السكان المسلمين، على الرغم من القيمة الآثارية الهائلة للآثار الآشورية تحت المسجد.
يَحمل المكان اسم النبي يونان المذكور في العهد القديم (سِفر يونان)، ويُعَدُّ مقدَّسًا لدى اليهود. وقد تَحوَّل إلى دير بعد أن كان معبدًا أشوريًّا، ثم بعد انتشار الإسلام صار ذلك الدير جامعًا (جامع النبي يونس). وقد حدث ذلك في القرن العاشر، إذ إن آخر ذِكر للدير كان سنة ٩٣٢م. وقد فَتحت الأنفاق الباردة والمغبَّرة المكتشفة داخل التلّة أسئلة، تتنازع في الإجابة عنها روايات وأساطير متعلِّقة بهذا المكان اللُّغز، الذي تَناول تَحوُّلاتِه التاريخيةَ كتاباتُ مؤرِّخِين، مِن أبرزهم الأب جان موريس فييه في كتابه "المَوصل المسيحية"، والأب ألبير أبونا في كتابه "الدَّيَّارات في العراق"، وآخرون.
مع أن الرواية الإسلامية تؤكِّد أنّ عظام النبي يونان (يونس) محفوظة فيها، وقد بُنِي ضريح فوقها يحمل اسم نبيِّ العهد القديم، مع سِنِّ الحُوت الذي تقول الروايات الدينية إنه سبح ثلاثة أيام، وهو يحمل يونس في بطنه؛ فقد أظهر جدلُ المؤرخين صراعَ سرديات يهودية مسيحية، تتعلق بالقبر والتابوت المنسوبَين إلى النبي يونان. فهل يَعُودان بالفعل لنبي العهد القديم، أم للبطريرك القديس خنانيشوع المتوفَّى سنة ٧۰۰م؟ وقد تَراجع الصراع بعد تحويل الدير إلى جامع، لكنه لم يُلغِ المنافسة الرمزية حول قداسة المكان لمُمثِّلي الأديان الإبراهيمية الثلاثة، لا سيما وإنه يحمل مزايا معمارية مشتركة، إذ لم يكن الجامع الذي دمّره تنظيم داعش يُرى متَّجهًا نحو مكة، بل نحو الشرق شأن كلِّ كنيسة قديمة.
لذا، أعتقد أن إعادة بناء المكان/الرمز، سيكون فرصة لإعادة بناء المدينة من مكان مشحون بروحانية تاريخية عالية. ومن هناك، يمكن تخيُّل عراق رمزي، مغاير، مفارق، منفتح على الجذور "عمقيًّا"، وعلى جميع مكونات المدينة الاجتماعية "أفقيًّا"، وعلى تخيُّل هوية وطنية جامعة "عموديًّا". سيُطْلِق معمار الرمز الجامع لثقافة إسلامية، وللثقافتَين اليهودية والمسيحية، والآشورية من قِبَلها، عالَمًا جديدًا يُعاد تخيُّله من قطعة فريدة مشحونة بتراث تعدُّدي. قطعة هي مرآة لتمثيل سكان المدينة على تنوعهم، وبينهم السكان القدماء للمدينة قبل عشرات القرون. ولكي أكون أكثر وضوحًا، فإن المكان الذي أقترحه، لن يعاد بناؤه كجامع أو كنيسة أو معبد، بل سيمثِّل الثلاثة معًا في آن واحد، رمز ثلاثيُّ الأبعاد، يعكس هوية المدينة وتاريخها وإرثها التعددي.
"يونان/يونس"، بهذا المعنى لم يَعُد مُلْكًا للأوقاف الإسلامية السُّنِّيّة، ولا هو رمز حصري لليهودية، ولا لجماعة مسيحية قديمة، بل أصبح يمثِّل أيقونة عابرة للزمن، رمزًا يشير إلى أن "الماضي" يمكن أن يَجمع العراقيِّين، إنْ كان الحاضر يفرِّقهم.
ليست هذه مبادرة إلى تأسيس دين جديد في فترة ما بعد داعش، ولا تمثِّل سعيًا لخلق ديانة موحَّدة من منابع متنوعة، بل تنطوي على دعوة إلى الاحتفاء بالتراث الديني والثقافي المشترك لجميع العراقيين. مسجد وكنيس وكنيسة ومتحف، تحت سقف واحد في قلب مدينة الموصل التاريخ.
إن تصميم مدخل واحد مشترك لجميع المواطنين، على أرضية مشتركة بين الأديان الإبراهمية الثلاثة، يمثِّل مكانًا للاحتفاء بالتنوع الديني بوصفه مَصدر ثروة وقوة للبلاد، وبيتًا للثقافات المختلفة، التي تمثِّل ماضي ميزوبوتاميا وحاضرَها ومستقبلها، وبناءً يجمع فضاءات تاريخية متداخلة، تلعب فيها الجماعات المختلفة دورًا مكمِّلًا لبعضها بعضًا، في سياق مواطَنة حاضنة للتنوع الثقافي.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.