لو كُنتَ من غير العراقيِّين/ات، وأردتَ أن تَعرف ما يدور في العراق من ثورة شبابيَّة أو حَراك سياسي أو صراع دولي، لكُنتَ توجَّهْتَ بِكُلِّ تأكيد إلى قراءة صُحف ومواقع ووكالات أنباء عالمية. لكنَّ هذا لن يكُون كافيًا بالنِّسبة إليك. لذا، قد تحتاج إلى مُتابعة وسائل الإعلام العراقية، للتَّعرُّف إلى ما يحدث من وجهة نظر مُباشرة، لا سيَّما إنْ كُنتَ من الناطقين/ات بالعربية.
قد تَفتح القنوات، أو تتصفَّح المواقع أو وكالات الأنباء العراقية -وأغلبُها مُموَّل من أحزاب وجماعات مُسلَّحة وشخصيات سياسية-؛ عندها ستقرأ وترى ما يُبثُّ في تلك الوسائل، وسيُخيَّل لك غالبًا أنَّ مجموعة شباب نزلوا من الفضاء للعبَث بالعراق. الصورة التي ستكُون في بالك، هي الصورة التي خطَّط إطارَها العامَّ كُلُّ مُناهِضٍ للاحتجاجات. وقد أسهَمَ هذا التأطيرُ بشكل أو بآخر في التحريض ضد الثورة، وفي تشويهها، وصار مُنطلَقًا إلى تحشيد رأيٍ يَملك السلاح باتِّخاذ تدابير ضد هؤلاء الشباب.
إنَّ قَتْل الصحفي "أحمد عبد الصمد" في البصرة قبل أيام، ومعه زميله "صفاء غالي"، لم يأت من فراغ. فقبْل أيّام من الاغتيال، تَعرَّض أحمد لحملة تحريض كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي. فكان مَثَلُ أحمد كمَثَل عشرات الآلاف من المُحتجِّين، الذين تَعرَّضُوا لذات الفعل. فمنهم من قُتل، ومنهم من بقي يصدُّ ويتحمَّل الكراهيَة، في حين وقفَت الحكومة العراقية عاجزة عن الدفاع عن الناس. وهي ذاتها الحكومة التي لم تَحْمِهم من القتَلة، ويبدو أنها لن تَحمِيَهُم من الإعلام الذي يَرسم طريق القتل. فمشروع الرصاص يبدأ بكلمة.
يُعيدني هذا بالذاكرة إلى السنوات الأخيرة مِن حُكم صدام حسين، عندما كان يَظهر أسامة بن لادن في مَقاطع فيديو مسجَّلة، وهو يُهدِّد الأميركيِّين وغيرَهم. كُنَّا قاصِرِي الإدراك آنذاك، وُلِدْنا وفتَحنا أعيُنَنا على الإعلام التَّعبوي البَعْثيِّ السُّلطَويّ. بكلِّ تأكيد كُنّا نعتبر ابن لادن أحد الأبطال في عصرنا. ففي المدرسة، أتذكَّر كيف كُنّا نتناقش على قدر عقولنا ونُمجِّد ابن لادن. كان إعلام البعث الذي يَبثُّ خطاباته على قناة الشباب، التي كان يَمْلكها عُدَي ابن صدام حسين، يصوِّر لنا ابن لادن ومَن على شاكلته كمُحرِّرين وأبطال "يَنصُرون" الإسلام والمُسلمين. كان ذلك يَحدث لأنَّ إعلام البعث وحده يُشْبع جُوعَنا المعلوماتي. أمَّا اليوم، فالفضاء الإعلامي واسع جدًّا.
لعِبَ الإعلام الحزبي التابع للأحزاب المُناهضة للثورة، دورًا سلبيًّا في التعامل مع ثورة العراقيِّين/ات، وكأنه أعلن انتحاره مِهنيًّا وأخلاقيًّا، ولم يَكتفِ بمرحلة التضليل والمضادَدة، بل راح يروِّج لخطاب كراهيَة غير ملحوظٍ سابقًا من حيث الشراسة.
تُهمٌ كبيرة أُلصِقَت بالشباب الثائر، وصار بعضهم/هُنّ مِن مُحرِّري الأخبار في وسائل الإعلام تلك، يُبدِعون في التحريض ضدهم، وفي فبركة المعلومات. ليس هذا فحسب، بل حرَّفوا معلومات خرجت فيما بعدُ تَتَّهم المُحتجِّين/ات بإثارة العُنف والفوضى في البلاد. وقد وجدَ مُدِيرُو وسائل الإعلام هذه أنفُسَهم أمام معركة، خَصْمُهم فيها الشَّعبُ الذي خرج يُطالب بحقوقه، مِن نظام سياسي عمل 16 عامًا على خَلْق كلِّ أنواع الخراب. ولِكي تُحافظ تلك المؤسسات ومَن يُديرها على مكاسبهم الشخصية، وقَفُوا ضدَّ الثورة.
عند المُقارنة بين ما استُخدم من تحشيد وتعبئة إعلامية ضد تنظيم "داعش" في أيامه الأولى، وما يُستخدم ضد الثورة حتى الآن، سنجد أننا أمام إعلام يَشعر بأنَّ الثائرين/ات للمُطالبة بحقوقهم، هم أخطرُ من تنظيم "داعش". أمَّا خطاب الكراهيَة في الإعلام العراقي، فليس بجديد، لكنه هو الأشرس منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. غالِبًا ما كانت الخطابات السابقة على أُسُس حِزبية، أو سياسية، أو بسبب انتماءات أخرى. لكن، لم يُتوقَّع أن تكُون الخطابات ضد الناس، لأنهم طالبوا بحقوقهم.
هيئة الإعلام والاتصالات في العراق، والتي تَدَّعي "مُراقَبة" تطبيق قواعد السلوك، والمدوَّنة التي يجب أن تلتزمها وسائل الإعلام، لم تتحرك أبدًا تجاه التحريض ضد النُّشطاء والمُحتجِّين/ات في الثورة، ولم تُقدِّم -على الأقلّ- تنبيهًا أو إنذارًا، لوسائل إعلام اتَّخذَت من خطاب الكراهيَة أساسًا لعملها. هذه الهيئة ذاتُها، تَثُور وتُصْدر البيانات والمواقف، إذا ما كان هُناك أيُّ برنامج ساخر أو مُنتَج تلفزيوني يَفضح فساد السياسيين في البلاد. لكنها اليوم، تقف صامتة وساكتة عن كل التحريض الذي يتعرَّض له أُناس أبرياء.
لم يعُدْ خطاب الكراهيَة مُجرَّد محتوى يَصدر من مُدير مؤسسة أو عاملين فيها، بل صار عملًا مُمنهَجًا تتبعه مجموعة وسائل إعلام، وتُرسَم له خطوط الخطاب العريضة في آنٍ معًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.