منذ أيام سألني ابني الأصغر ذو التسع سنوات بعد عودته من المدرسة: "ماذا يعني الصليب؟"، وقام بإشارة الصليب بأصابعه. ثم سألني مرة أخرى: "هل هذه من علامات الله أم من الشيطان؟". في سياقات أخرى، قد يطرح الأطفال أسئلة أخرى مثل: "هل صحيح أننا نَدخل الجنة وهم يدخلون النار؟". تبدأ الأسئلة عندما يبدأ الأطفال يَعُون أن ثمة أديانًا مختلفة، ويلحظون ممارسات دينية تبدو لهم غريبة، ولا تستوعبها عقولهم إلا من خلال الثقافة السائدة. في الكثير من الأحيان تكون هذه الأسئلة الطفولية محرجة لنا، لأنها تمتحن قدرتنا على بناء إجابات تستجيب لفضول الأطفال، وتحترم براءتهم وبساطة تفكيرهم في الوقت نفسه.
لكن السؤال المركزي: "كيف نتعامل مع أسئلة الأطفال بشأن الأديان الأخرى؟". هو سؤال مقلق في كل الأديان، ليس بسبب محدودية القدرات الإدراكية للأطفال فقط، بل لأنه يطرح في حقيقة الأمر سؤالًا فلسفيًّا أعمق: "كيف نتحدث عن الأديان الأخرى دون أن ننسى أن من نتحدث عنهم ليسوا مجرد موضوع يمكن اختزاله في كلماتنا، بل تجربة إيمانية يعيشها الآخر المؤمن؟ وكيف نستطيع التوليف بين قناعاتنا الدينية والقدرة على احترام الكينونة الإيمانية للأديان الأخرى؟". بمعنى آخر، يتعلق الأمر بقدرتنا نحن -من نسمي أنفسنا راشدين- على تحليل لغتنا الدينية الاعتيادية، التي هي مجموعة من الإجابات الثقافية والدينية الضرورية، لخلق التمايزات الدينية.
لا شك أنه من حق المؤمنين/ات نقل إيمانهم لأبنائهم، بحسب ما تؤكده المواثيق الدولية، وهم واثقون بأن ذلك هو ما يضمن خلاصهم. لكن هذه المواثيق نفسها تؤكد ضرورة احترام حقّ الطفل في حرية "الفكر والوعي والدين". نحن هنا أمام مفارقة حقيقية ومقلقة، عادة ما يترجمها السؤال الآتي: "هل نحن فعلًا من نختار ديننا؟". لهذا، يجب على كل المؤمنين والمؤمنات أن يؤسسوا لمعقولية أخلاقية، أساسها التوفيق بين حقهم/ن في نقل إيمانهم لأطفالهم من جهة، وضرورة بناء علاقة منفتحة بالأديان الأخرى من جهة أخرى. وذلك لكي لا يتعرض الأطفال -وهم صفحة بيضاء- لبرمجة سلبية، تمنعهم من بناء أيه علاقة إيجابية بالآخر.
ولكَون أسئلة الأطفال هذه لا يمكن أن نتفاداها في سياقات التداخل والترابط الثقافي، الذي تنتجه ثورة الاتصال والتواصل، بحيث إنها تطرح إشكالية الغيرية الدينية في أنظمتنا التعليمية؛ فقد انبثقت تدريجيًّا فلسفة تربوية جديدة، مبنية على مبدأ تدريس الأديان من خلال أنساقها الذاتية، بحسب ما يؤمن بها معتنقوها. فنضع أنفسنا، كما يقول الفيلسوف الفرنسي "لويس ماسينيون"، في محور إيمان الآخر، ونَقبل أن ننزل ضيوفًا عنده، ونفهم عقيدته كما يعيشها باعتبارها تجربة إيمانية؛ ما يعني الرفع من قدرتنا على فهم الثقافات والأديان حولنا.
هكذا نستطيع الخروج مما يسميه الفيلسوف الفرنسي "إدغار موران": مفارَقة "حالة اللافهم العام"، التي تميز العلاقات بين الأديان والثقافات في زمن التواصل المُعَولم، أو حالة "الفقر الثقافي" المدقع فيما يخص معرفة الأديان، والذي تزداد حدته بسبب "الجهل الذي نجهل بوجوده"، حيث يجهل أغلب الشباب حالة تشوه أفكارهم الدينية التي يعتقدون أنها معارف حقيقية. من هنا جاءت ضرورة بناء مشاريع تربوية ترتقي بثقافة احترام الاختلاف، من خلال تعليم مستنير يخلق لدى المتعلمين قدرات خاصة بالثقافة الدينية، مثل: فهم دلالات الممارسات والرموز الدينية المختلفة. يجري تعليم هذه الأديان بصفتها منظومة معارف قبل أن تكون منظومة عقائد، وذلك من خلال الفكر النقاشي، وثقافة السؤال والرغبة في فهم الآخر. ومن ثمَّ، فإن الاختلافات تصبح مدخلًا إلى فلسفة التعددية وقيمها، بدل أن تكون مصدر تصادم.
أيضًا أعتقد أن ما أسميه "البناء البيداغوجي" للأديان يستلزم تحوُّلًا لاهوتيًّا عميقًا، قد لا تكون أغلب المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة مستعدة له، لأنها لا تزال ترزح تحت ثقافة فقهية تقول بـ"تحريم" المعرفة الدينية للآخر، وبعدم جواز دراسة الأديان الأخرى التي يرونها "باطلة" أو تدريسها، لأنها قد توقع في الشبهة والفتنة، إلا إذا تعلق الأمر بدحضها والرد على أباطيلها. هكذا يتحول الجهل بالآخر إلى عقيدة دينية، تنظر إلى المختلف دينيًّا انطلاقًا من مقولات الكفر أو الهرطقة، وهو تصور استعلائي يحُول دون بناء رؤية إيجابية للآخر.
أعتقد أن فلسفتنا الدينية يجب أن تعيد تأسيس نفسها، مستنيرة ببراءة الأطفال الذين هم أكبر مسؤوليةٍ أخلاقية ملقاة على عاتق كل المؤمنين والمؤمنات. فعندما نحدثهم عن دين غير دينهم، فلنَحْذر من ألَّا نغتال صفاءهم الملائكي، فيتحولوا إلى مجرد هويات دينية قاتلة، مغرورة، وجاهلة بروحياتنا المشتركة. يجب أن نتعلم من أطفالنا الكثير قبل أن نشرع في تعليمهم، بل يجب أن نكون مثلهم، كما يقول يسوع المسيح: "إن لم تصبحوا مثل هؤلاء الأولاد الصغار فلن تدخلوا مملكة السماء، فالأعظم في هذه المملكة هو الذي يكون متواضعًا مثل هذا الولد الصغير". والله أعلم
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.