من وقت إلى آخر، ترتفع الأصوات من حولنا مُعلِنة بحسرة أنَّ: "كل جميل يرحل"، وأن الحياة لا تُبْقي فيها إلا الأقل جمالًا، حيث تسُود السوداوية مَشهدَ الأحاديث. مع أصوات التأبينات الجماعية هذه، يَبرز صوت مُوازٍ يعبِّر عن مشكلة عميقة في ذهنية المجتمع، إذ لا يرى الزمن الجميل سوى الزمن الماضي. فالماضي بكل صِلاته، ورجاله، وأغانيه، وطريقة العيش فيه، حتى معاركه وبطولاته؛ يتحول إلى مادة ماتعة لِكَونها فصلًا من الزمن الجميل.
تبدو مسألة وضع الماضي موضع الزمن المثالي إشكاليةً حقيقية، تحُول دون التعاطي بشكل صحيح مع الواقع، وتَبْني صورة مشوهة عن المستقبل، باعتبار أن: "الزمن لا يأتي بخير" -بحسب منطق الكثيرين-.
ما الذي يدفعنا إلى الارتماء في الماضي والإعجاب المطلق بكل ما فيه؟ وما الذي يجعلنا نهرول نحو زمن ما زالت تدويناته محل شك ليكون هو ظِلّنا الدائم؟ هناك عدة تفسيرات لذلك، لعل أبرزها يكمن في طريقة تصورنا للزمن القديم. فنحن عادة ما نتبنى علاقة عاطفية بالماضي الذي لم يعد موجودًا، ونقوم خلالها بإبراز مواطن الجمال فيه -بحسب اشتراطاتنا-، ونعيش حالة من النكران تجاه عيوبه أو التجاهل أو التبرير لها. من ناحية أخرى، يوفر الماضي مساحة مريحة للهروب من فشل الحاضر. فكلما شعرنا بإخفاق، ركضنا نحو الماضي لاستعارة بعض النجاحات للتباهي بها.
في غالب الأحيان، تلعب طريقة تقديم الماضي المعزَّزة دينيًّا أو اجتماعيًّا، عاملًا مهمًّا في هذه الظاهرة. ومع شدة هوَسنا بالعودة إليه، يشكل الماضي مرجعية السلوك اليومي لنا، أي أننا نتعامل مع المواقف التي نمر بها ونضع الحلول لها، وفق شرطيات حوادث مشابهة حصلت في التاريخ. ولكي يصبح الماضي الميت كائنًا حيًّا، يتمدد ويتفاعل في حياتنا، وتضاف إليه في بعض الأحيان القصص والحكايات المبتكرة، بما يتلاءم مع احتياجات إسقاطه على الحاضر.
يبدو التعلق بالماضي لدى بعضهم وكأنه يحمل قدْرًا من الوفاء لأحداثه وشخوصه، لكنه يصبح إشكالًا حين يكون محمَّلًا في طرفه الآخر بقطيعة مع الواقع، إذ يجعل مسار الحياة في الزمن الحاضر عكسيَّ الاتجاه، أي للخلف وليس للأمام؛ ما يُحدث عطبًا في عجلة الحياة. فتَقضي المجتمعات دُهورًا في سبيل جلب زمن يستحال جلبه، مثلًا: بعض الجماعات التي تحاول تطبيق انتظام سياسي او اجتماعي، ذُكِر في كتب التاريخ أنه طُبِّق قبل قرون، ينتهي الحال بها إلى الفشل المؤكد، لأن محاولة جر مجتمعات اليوم إلى الأمس البعيد، هي ليست عملية صعبة التطبيق فقط، ولكنها غير منطقية، وتحوي قدْرًا كبيرًا من الجهل.
بالطبع، للماضي إشراقاته المتميزة، لكنها لا تُحِيله إلى زمن مهيمن على بقية الأزمنة. فمَن عاش في الماضي، خضع لشرطية زمنية لم تعُدْ متوافرة حاليًّا. والمجتمعات التي تعيش إشكالية الارتماء في الماضي، تَفْقد مستقبلها -وقبْلَه حاضِرَها- الذي سيكون بعد سنوات ماضيًا لأجيال مقبلة، ستضعه رغم عثراته نموذجًا من حاضرها. وهكذا، تتوالى الإخفاقات، وتتوالى مظاهر تزيينها أيضًا، فيمتلئ الزمن بالمجتمعات المعلَّقة، التي لا تتعثر في أن تعيش في إطار خط زمنها.
بالطبع، الزمن القديم ليس أجمل من الآن. فالخروج من عباءة الأمس إلى فضاء اليوم، كفيل بأن يجعلنا ندرك كيف أن الحياة صارت أفضل بكثير من ذي قبل. الحياة التي نعيشها اليوم بما فيها من تقدُّم حضاري ومعرفي مذهل، كانت حلمًا لمن مروا قبلنا. والتحديات التي تشهدها حياتنا اليوم، ليست مبرِّرًا للمجتمعات للهروب نحو الزمن الغابر، بل محفزًا إلى البحث عن معالجات داخل سياقات الواقع. وخلوُّ الماضي من تحديات نشهدها اليوم، لا يعني أن الماضي أفضل، بل يعزز فكرة أن ما حدث سابقًا هو سياق مختلف، وإلا ما ظهرت هذه التحديات فيه.
إن إعطاء الماضي سلطة أبوية على الحاضر، يُعطل ماكينة الإبداع في مجالات عدة، ويجعل الحياة حلقة مفرغة معزولة عن الواقع. ما تحتاج إليه مجتمعاتنا اليوم هو مصالحة بين الماضي والحاضر، تُفْضي إلى تَعاطٍ إيجابيٍّ بلا قطيعة ولا هيمنة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.