مِن أبلغ الأقوال التي جاءت على لسان عيسى بن مريم عليه السلام في الإنجيل، والتي تُمثل قاعدة معيارية عامة للتمييز بين صدق الدعوات الدينية وكذبها، قولُه: "مِن ثِمارهم تَعْرفونهم. هل يَجْتنون من الشوك عنبًا، أو من الحَسَك تِينًا؟ هكذا كل شجرة جيِّدة تَصنع أثمارًا جيدة، وأما الشجرة الرديَّة فتَصنع أثمارًا رديَّة" (مَتَّى 7: 16-17). فالحقُّ والصدق ينفعان الناس ويصلحان أحوالهم، والباطل والكذب يثمران ما يضرهم ولا ينفعهم.
لا يمكن الحكم على صحة الأفكار النظرية بعيدًا عن رؤية آثارها في واقع أتباعها. فعموم المنفعة واستمرارها هما دليلان على صحة الأفكار التي وراءها، خلافًا للمَفسدة العامة التي تنطق باعتلال الأفكار والوجهات التي وراءها: {كذلك يَضرب اللهُ الحقَّ والباطلَ فأمَّا الزَّبَد فيَذهب جُفاءً وأما ما يَنفع الناسَ فيَمكث في الأرض كذلك يَضرب اللهُ الأمثالَ} [الرعد: 17].
فالانسجام بين الحقيقة الدينية والمنفعة العامة، هو الامتداد الأمثل للقيم العليا التي جاءت بها الرسالات والشرائع النبوية. فلا قيمة للأفكار الغيبية المجردة، التي لا تنبت زرعًا، ولا تنفع الناس في واقع حياتهم؛ فهي لا تعدو أن تكون وهْمًا خياليًّا يُبدد طاقة الإنسان فيما لا طائل من ورائه.
يؤسس القرآن الكريم لقاعدة عامة على مستوى العلاقات الإنسانية، تُقرر أن عمل الخيرات والتسابق فيها هما الميدان الفعلي، الذي يجب أن يتجه إليه الناس مهما كانت اختلافاتهم في المعتقدات والتصورات. يقول تعالى: {ولِكُلٍّ وِجْهةٌ هو مُوَلِّيها فاستَبِقوا الخيرات أيْن ما تكُونوا يَأتِ بِكمُ اللهُ جميعًا إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 148]. فكل أهل ملّة لهم وِجْهتهم التي يتوجهون إليها في شؤونهم الدينية والدنيوية، ومهما تغيرت الشرائع والشعائر، فإنَّ الثابت المشترك هو التوجه إلى عمل الخير، الذي مِن شأنه أن يكون محل إجماع واجتماع في نهاية المطاف. وما دامت معاني القرآن يجب أن تُحْمل على مختلف الوجوه وأشملها، فإن معنى الوجهة في الآية يتعدى معناها المكاني الشعائري (القِبلة) لدى أهل الكتاب والمسلمين، ليشمل كل الوجهات والمناهج الدينية والفلسفية التي يؤمن بها الناس في مختلف العصور والأزمان.
ومن أعمق المعاني المتضمنة في قوله تعالى {هُوَ مُوَلِّيهَا}، الإقرارُ بأهمية الاختلاف وحرية الإيمان والاعتقاد. فالإنسان هو المسؤول عن اختيار وجهته بمحض إرادته، وهذا يؤكد احترام الإسلام لاختلاف الوجهات التي يؤمن بها الناس. فلا يحق لأتباع وِجْهة ما منْعُ غيرهم من السعي إلى وجهتهم. وقريب من هذا قول ابن عاشور: "والمعنى أن لكل فريق اتجاهًا من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق...".
الأمر باستباق الخيرات الذي جاء في الآية السابقة {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، يعني الحث على عمل الخيرات على أكمل الوجوه، واجتناب الوقوع في جدل الغيبيات والمقررات العَقَدية. فاختلاف الوجهات العَقدية لا يجوز أن يصرف الناس عن عمل الخير، أو كما يقول ابن عاشور: "وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم". فالعقل المَقاصدي لا ينشغل بالجزئيات والوسائل على حساب الكليات والغايات. و"استباق الخيرات" يحقق الغايات ويؤكد صحة الوجهات، أو كما يقول السعدي في تفسيره: "ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات".
ومن دلالات الاستباق أنه يضع الجميع على مِهاد واحد، ويفتح أمامهم أبواب العمل وبذل الجهد فيما يحقق الخير للجميع. وهذا ينسجم مع قيمة العمل الصالح في القرآن، والذي يحدد مصير الإنسان ونجاته بعيدًا عن غرور الانتساب إلى الحق: {ليس بأمَانِيِّكُم ولا أمانِيِّ أهلِ الكِتاب مَن يَعملْ سُوءًا يُجْزَ به ولا يَجِدْ له مِن دون الله وليًّا ولا نَصيرًا} [النساء: 123]، والتي يذكر القرطبي في سبب نزولها: "تفاخَر المؤمنون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبيُّنا قبل نبيِّكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أحقُّ بالله منكم. وقال المؤمنون: نبيُّنا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية".
إنَّ التفاخر والغرور بحيازة الحق بمحض الانتساب إليه، هو داء قديم ما يزال شائعًا بين عموم أتباع الأديان، وهو إضافة إلى كونه نتاجًا لأوهام الأماني والاستعلاء، يُسقط قيمة العمل واستباق الخيرات من معادلة "الإصلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.