لا تقتصر مشكلة التمييز بين الذكر والأنثى على بعض الآراء الفقهية الإسلامية؛ وإنما تعود إلى الأطر الثقافية القديمة، التي أعادت تدوير نفسها في لغة بعض النصوص والتعاليم الدينية. ومن ذلك، ما نجده في اليهودية من إبعادٍ للمرأة من خدمة المعبد وأداء الطقوس الجماعية. فالذكور وحدهم هم الملزَمون فريضةَ الحجّ (خروج 23: 17). أيضًا نجد التمييز واضحًا في البركات، التي يتلوها اليهودي في صلاته اليومية: “مُبارَك أنت يا رب لأنك لم تجعلني لا وثنيًّا ولا امرأةً ولا جاهلًا”. ولعل تقديم الوثني على المرأة هنا يُشعر بعمق المشكلة، التي تركَتها الثقافة الذكورية في التعاليم الدينية.
سعى الفكر الديني في الكثير من الحالات إلى تسويغ أفضلية الرجل على المرأة، من خلال إبراز دورها في الخطيئة الأولى أولًا، ثم ربط ذلك بالطبيعة التكوينية “الناقصة” للمرأة. وهنا، نَذكر ما جاء في سفر التكوين، حيث كانت الخطيئة الأولى وراء تشويه العلاقة بين الرجل والمرأة بإخضاع المرأة لزوجها (3: 16). ولكن المعنى الخفي الجميل الذي يكمن وراء النص هنا، هو أن الخضوع أو الإخضاع لم يكن يمثل العلاقة الأصلية القويمة بين الرجل والمرأة!
أما في المسيحية، فإلى جوار النظرة اللاهوتية الجديدة، التي قدَّمها بولس بعيدًا عن الثقافة السائدة في المجتمع اليهودي، والمتمثلة بقوله: “فلم يبْقَ مِن بَعدُ… ذَكرٌ وأنثى: لأنكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع” (غلاطية 3: 28)؛ فإن الثقافة السائدة ما لبثت أن ظهرت في موقف بولس، وتشديده على ألَّا تتكلم المرأة في الكنيسة (1 كورنثوس 14: 34).
بالعودة إلى التراث الإسلامي، نجد إلى جانب كثير من التعاليم التي تُنصف الأنثى، وتُماثل بينها وبين الرجل، أنَّ نصيب الأنثى كان نصْف نصيب الرجل في الدِّيَة والشهادة والمِيراث والعَقِيقة. ومعنى هذه الأخيرة أن المولود الذَّكر يُذبح له شاتانِ، خلافًا لعقيقة المولودة الأنثى. فلا يُذبح لها سوى شاةٍ واحدة. وفي السياق اليهودي، نجد أن نجاسة الأم التي تلد أنثى، هي ضعف نجاسة ولادة الذكر. فالمرأة التي ولدت ذكرًا تكُون نجسةً سبعة أيام، ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها. وإن ولدت أنثى، تكُون نجسةً أسبوعين، ثم تقيم ستة وستين يومًا في دم تطهيرها (لاويِّين 12: 1–5).
من النصوص التي تؤكد الأثر الثقافي للأحكام والتشريعات المتعلقة بالمرأة، ما جاء في القرآن حول عقوبة “الأَمَة المُحصَنة” التي تقع في الفاحشة، ويكُون لها “نِصف“ عقوبة المحصَنة “الحرَّة”: {فإذا أُحْصِنَّ فإنْ أتَيْنَ بفاحشة فعليهن نِصْفُ ما على المُحصَنات من العذاب} [النساء: 25]. فالمرأة هي المرأة، ولكن المستعبَدات لسن كالحرائر، لأن العبودية تترك آثارها البغيضة في إرادة المرأة، وتجعلها أكثر ضعفًا، وأكثر عُرضةً للخطأ والخطيئة.
من أهم النصوص التي يجب فهمها، لحسم النقاش المستمر حول المرأة وحقوقها في الإسلام، ما جاء في الآية القرآنية: {وليس الذَّكَر كالأُنثَى}. فهل هو من كلام أُمِّ مريم “حَنَّة النذيرة”، أم من كلام الله؟ فَهِمَ بعضُ المفسرين أنه من كلام أمِّ مريم، وأنها قالته تحسُّرًا بعد أن نذرَت لله أن تجعل مولودها محرَّرًا لخدمة بيت المَقدس، ولكنها وضعَتها أنثى، لا تَصلح للقيام بخدمة المعبد وفْق المنظور اليهودي. وخلافًا لما يظن الكثيرون/ات، فإن القول بأن العبارة من قول الله، وليست من قول أمِّ مريم، لا يدل على تفضيل الذكر على الأنثى، لأن ذلك يتعارض والعمق الإنساني التوحيدي للقرآن. فتفضيل جنس الذكور على جنس الإناث، لا يقل سوءًا عن العنصرية القومية أو العرقية.
لو كان المقصود من الآية هو تفضيل جنس الذكور على الإناث، لكان النص: “وليست الأنثى كالذَّكر”! لأن المشبَّه به يجب أن يكون أقوى من المشبَّه. فلو كان النص دليلًا على تفضيل جنس على جنس، لدلَّ على تفضيل الإناث على الذكور، ولكن سياق الآية لم يكن حول المفاضلة بين الذكر والأنثى، وإنما كان حول تفضيل أنثى معيّنة وضعَتها “حنّة النذيرة”. لم يكن أحد يَعلم فضلها -سوى الله- على ذَكر معيّن، كانت تأمل أن تضعه لخدمة المعبد. وهنا، فإن قوله: {وليس الذَّكر كالأنثى}، فيه تعزية من الله وتعظيم لشأن مولودتها “الأنثى”، حسب ما جاء في تفسير الرازي: “كأنها قالت: الذَّكر مطلوبي، وهذه الأنثى موهوبةُ الله تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبةٌ لله”. وكانت هذه الأنثى التي اصطفاها الله وطهّرها من بين نساء العالمين، مستودَعًا لكلمته، وأنموذجًا من المرأة الكاملة، بين أكثر من نصف سكان العالم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.