شهدت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في الشهرين الأخيرين، نقاشًا فكريًّا يبدو عابرًا، لكنه يبقى ذا دلالات عميقة، موضوعه نموذجان أخلاقيان، وهما طبيبان مصريان استطاعا أن يجسدا قيم التضحية والإحسان وحب الإنسانية. أحدهما الدكتور مجدي يعقوب، جراح قلب مُنح لقب “ملك القلوب”، لتضحياته من أجل علاج الآلاف من مرضى القلب. والثاني الدكتور محمد مشالي المعروف في مصر بـ”طبيب الغَلَابة”، والذي كرس حياته لعلاج الفقراء بأجور زهيدة.
برز النقاش بعد ردود فعل بعض ممثلي الإسلام السلفي، على تعبير الكثير من المسلمين عن امتنانهم لمجدي يعقوب والدعوة له بالشفاء والجزاء، حيث اعتبروه منحرفًا عن العقيدة القويمة؛ في حين كان ترحُّمهم على الدكتور مشالي بعد وفاته شيئًا عاديًّا وموافقًا للعقيدة. وكانت أكثر الأفكار استفزازًا هي أن الدكتور مجدي يعقوب لا مكان له في الجنة، وأن أعمال الخير لا يمكن أن تنفعه في حياته الآخرة.
لا شك أن تسفيه العمل الخيري، وفهْمَه باعتباره “مجرد” عمل دنيوي لا وزن له يوم القيامة، وأنه لا يَصدر عن إيمان حقيقي بالله، لهو برأيي دليل القصور الفكري والروحي لهذا الفكر، فضلًا عن غروره العقائدي. في الوهلة الأولى، قد يبدو موضوع مصير مجدي يعقوب في “العالم الآخر”، نقاشًا بيزنطيًّا وقضية ميتافيزيقية غير ذات أهمية. لكن بالنسبة إليَّ، فإن هذا الجدل لم يكن عقيمًا، لأنه أبان عن عائق فكري ديني، يمكن أن يكون مبرِّرًا للفصل بين الدين والقيم الإنسانية.
قد يشكل ربط قيمة الخير ودلالتها الخلاصية بانتماء ديني ما، تهديدًا للمنظومة الأخلاقية، إذ لا يبقى الخير قيمة إنسانية كونية وقاعدة أخلاقية عامة، ما دام يمكن أن ينتج إيمانًا منزوع الأخلاق تهيمن عليه الطقوسية، عندما نعتقد تفوُّق انتمائنا الديني؛ بل وقد يختل الميزان الأخلاقي، وتكون الأعمال اللاأخلاقية أجدر بالثواب إنْ جرى ربطها بمسلَّمات إيمانية، وليس بقيمة الخير بوصفها مصدرًا للخلاص.
لذا، تساءل كثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي: كيف نكفِّر من كرس حياته للخير، أو نؤكد حرمانه الأبدي الخلاصَ في الآخرة، أو نتردد في تكفير من كرس حياته للشر والقتل والاستعباد رغم ادعائه الإسلام؟! ومن هو الأقرب إلى الله؟ وأي جنة هذه التي سيجد فيها أغلب من خدموا البشرية من كل الأديان أنفسهم خارجها؟ ثم إننا بذلك نصنع إلهًا مشوَّهًا منحازًا محابِيًا، وعاجزًا عن أن يكون مصدر تأسيس للقيم الأخلاقية، بوصفها قواعد عامة تكتسي القيمة نفسها عند كل البشر.
إن عمق هذا النقاش في السياق الراهن لمجتمعاتنا ليس لاهوتيًّا، بل مدنيًّا وحضاريًّا، لأن عقيدة التكفير ليست مجرد مبدأ عقائدي محايد، بل يمكن أن تكون مبرِّرًا للسلوكيات العنيفة والتمييزية، فضلًا عن أنها تَحُول دون بناء مشروع الخير العام. لذا، أعتقد أن النقاش الذي أثير حول الدكتور مجدي يعقوب لا يتعلق فقط بالأخرويات، بل هو في صلب الدنيويات، لأنها تطرح قيمة الأشخاص الذين نعيش معهم، والاعتراف بما يُسْدونه من خدمات لمجتمعاتهم أو للإنسانية كلها.
لا بد من الإشارة إلى موقف دار الإفتاء بمصر، والتي أشادت بمجدي يعقوب وخدمته لأبناء وطنه بغض النظر عن انتمائهم الديني. أيضًا أشادت بموقف الكثير من المصريين الذين -انطلاقًا من “فطرتهم النقية”- دَعوا بالشفاء لمجدي يعقوب. لكن، من المؤسف أن المؤسسات الدينية لا تستغل مثل هذه النقاشات، كي تدخل في مرحلة التحول اللاهوتي، أو تتجاوز “لاهوت الكفار”، أو تطرح بشجاعة مسألة خلاص غير المسلمين أو تؤسس لها أخلاقيًّا. يتعلق الأمر بالقدرة على الإقرار بأن الإنسان هو الواسطة بين الله والإنسان. فمن يكرم الإنسان، يكرم الله ويتحقق به، ويجعل هذه الإقرار ركنًا من أركان الإيمان. هكذا، يمكن ربط الإيمان القويم بالعمل الإنساني القويم، بحيث يصبح الخير تجاه الإنسانية شرط الإيمان الحقيقي -وليس العكس-، انطلاقًا من الحديث النبوي: “خيرُ الناس أنفعُهم للناس”. لكن هذا الإصلاح لا يُطرح بالنسبة إلى الإسلام فقط، بل بالنسبة إلى كل الأديان ذات النزعة الصِّراطيّة.
يقول مولانا جلال الدين الرومي: “الجنة والجحيم بداخلك. ففي كل مرة نحب فيها ندخل الجنة، وفى كل مرة نحقد أو نتباغض.. فإننا نسقط في نار الجحيم”. لذا، فعندما سُئل الدكتور مجدي يعقوب أَكانَ سيذهب إلى الجنة أم لا، أجاب: “أنا هنا في الجنة”، وذلك في إشارة إلى السعادة التي يمنحها إياه حبه للآخرين وتضحياته من أجلهم. لهذا، فإن الإنسان هو الطريق إلى الله، وهو موطن الجنة. والله أعلم
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.