الرجوع

الإيمان مواقف سلوكية

الإثنين

م ٢٠٢٠/١٠/١٢ |

هـ ١٤٤٢/٠٢/٢٥

تعرضنا في المقال السابق للبعد الأنثروبولوجي للرحمة الإلهية، وهو موضوع أحسب أن له أهمية كبرى في سياق التأسيس للاهوت الرحمة. إلَّا أن هناك موضوعًا متصلًا بهذا البعد تجدر الإشارة إليه، ويتمثل بضرورة إعادة النظر في أشكال المفاهيم المتعلقة بصورة الإنسان المؤمن. وهنا، لا بد من وقفة سريعة مع مفهوم الإيمان نفسه، أو مع مفهوم العبادة لكونه متعلقًا بمفهوم الإيمان أيضًا.

لقد جَرت العادة على أن يقع التفريق بين المؤمن والملحد، بناءً على إثبات مقولة وجود إله للكون، أو رفضها. ويترتب على هذا التفريق مقولة أخرى، تتعلق بالمصير الأخروي للإنسان. فصاحب المقولة الأولى يكون مصيره الجنة خالدًا فيها؛ وأما الملحد، فمصيره نار جهنم خالدًا فيها.

إن لاهوت الرحمة ينطلق من فهم آخر للإيمان، يتجاوز معه مجرد السؤال عن وجود الله من عدمه. فلقد رفض القرآن وصف مشركي مكة بأنهم مؤمنون، مع اعترافهم بوجود الله الخالق: {وَلَئِن سألتَهم مَن خَلَق السماواتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ الله} [الزُّمَر: 38]. ثم إنه لم يصِف إبليس بصفة الإيمان، مع أن القرآن يَعرض لأكثر من حوار بينه وبين الله، أي أن إبليس كان مؤمنًا بوجود الله. ومع ذلك، فهو ليس بمؤمن. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم فصل القرآن بين الإيمان والعمل الصالح، إذ يجعلهما وجهين لعملة واحدة، كما في قوله تعالى: {الذين آمَنوا وعَمِلوا الصالحاتِ طُوبَى لهم وحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]. وهذا ما يتماشى وتعريفَ الإيمان، من حيث إنه: “ما وقَرَ في القلب وصدَّقه العمل”. فإنْ لم يصدِّقه العمل، فهو مجرد ادعاء مفرَغ من معانيه. فالعمل الصالح شاهدٌ على الإيمان وصحته. وبِلُغتنا اليوم، هو: العمل الإيجابي الذي ينفع الإنسانَ ومَن حوله.

إن مفهوم رحمة الله -والذي يعبِّر عن الإرادة الإلهية للتواصل مع الإنسان-، تَواصُلٌ تَحكمه المحبة، ويكرمه على أساس أنه إنسان حر؛ ما يترتب عليه أن الله تعالى يفعل في خلقه، من خلال قوانين تَضمن أكبر مساحة ممكنة للحفاظ على الحرية الإنسانية. لذلك، يمكن أن نقول: إن الله تعالى يفعل في التاريخ الإنساني -بالدرجة الأولى- من خلال الإنسان نفسه، إذا ما تعاوَن هذا الأخير، وفعَّل حريته لتحقيق مراد الله، والذي يدور حول مبدأَيِ الرحمة والمحبة. وهذا ما سوف يفتح لنا أفقًا أوسع لفهم خلافة الإنسان، ولفهم معنى العبودية.

ما معنى عبادة الله، نتحدث عن إله كامل في ذاته ليس بحاجة لغيره؟ إن العبودية لله تتحقَّق حين يكون الإنسان يدًا للرحمة والمحبة من خلال أفعاله، كما جاء مثلاً في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم: “يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني ، قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني.. الخ”. هذا الحديث يذكّرنا بالإصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متى، إذ توجد فيه رواية مشابهة يتمّ التأكيد في آخرها على نفس هذا المعنى: “بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ” (متّى ٢٥: ٤٥).

تتحقق إذاً محبة الإنسان لله حين يكون يدًا لتحقيق المحبة والرحمة الإلهية وأداتها. وهذا هو جوهر التدين ومعياره؛ ولذلك فإن الإيمان يزداد وينقص، كما جاء في الحديث النبوي، لأنه مواقف سلوكية في حياة الإنسان اليومية، قد ينجح أحياناً ويخفق في أخرى، فالإيمان صيرورة تتطلب إعادة التفكر في أفعال الإنسان ومسالكه ومواقفه باستمرار.

إن الإيمان من هذا المنظور مسؤولية وجودية، من جهة أن رحمة الله تعالى تتجلى من خلال الإنسان، شريطة أن يقبل هذا الإنسانُ بحريته وإرادته محبَّةَ اللهِ، ليصير بذلك يدًا يعمل الله من خلالها كما جاء في الحديث القدسي المعروف الذي يخبر فيه الله عن علاقته بمحبوبه: “كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها الخ”. أمَّا إذا رفض الإنسان قبول محبة الله، فسيَحِلّ الظلم، وتنتشر المجاعات، وتنشب الحروب، وتعُمّ الكراهية، لِتَحُول جميعها دون تحقق محبة الله ورحمته.

إن تفعيل دور الإنسان ومسؤوليته كأداة لتحقيق حب الله ورحمته، يشكل خطوة على طريق تجديد الخطاب الديني الذي يمنح للمسلم وعيا عميقا بأنَّه ليس مجرد مخلوقٍ سلبي، بل مسؤول عن تغيير حاله، بالشكل الذي يجعله قادرًا على كتابة تاريخه وتاريخ الإنسانية، وقد أكد القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (سورة الرعد، 11. بواسطة هذا الإدراك لقدرة الإنسان، يتسع أفق فهم العبادة. فلا تقتصر على الطقوس والشعائر، بل تصبح منهج حياة في خدمة المحبة والرحمة الإلهية.

وللحديث بقية…

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2025
تصميم وتطوير Born Interactive
معلومات ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين التنقل في الموقع وتحليل استخدام الموقع والمساعدة في جهود التسويق. تحقق من سياسة ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا للحصول على التفاصيل.

إعدادات الخصوصية

حدد ملفات تعريف الارتباط التي تريد السماح بها. يمكنك تغيير هذه الإعدادات في أي وقت. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا إلى عدم توفر بعض الوظائف. للحصول على معلومات حول حذف ملفات تعريف الارتباط، يرجى الرجوع إلى وظيفة المساعدة في المتصفح الخاص بك.
تعرف على المزيد حول ملفات تعريف الارتباط التي نستخدمها.

ضروري
وظائف
تحليلات
تسويق

هذا الموقع سوف:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • تذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • مح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

هذا الموقع الإلكتروني لن:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • يتذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • يسمح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

حفظ وإغلاق