تُوفّيت “جيزيل حليمي” المحامية الفرنسية التونسية عن عمر ناهز (93) عامًا، وكانت وفاتها فرصة لاستذكار حياة حافلة بالنضال من أجل الحقوق. “جيزيل” يهودية الديانة، عاشت في مجتمع يسوده الفقر والجهل، ويتلاعب فيه الاستعمار الفرنسي حاملًا شعار “فرِّقْ تسُد”. وهي بوصفها فتاة لم يكن مُرحّبًا بولادتها، حتى إن أهلها أخفوا الخبر عدة أسابيع.
نشأت جيزيل حليمي في بيئة تقلل من قيمة الأنثى، إذا ما قورنت بقيمة الذَّكَر. لم يعجبها هذا الطرح منذ الطفولة، وتمردت على خدمة إخوتها الذكور في سن الثالثة عشرة، مستخدمة سلاح الإضراب عن الطعام. وعندما نجحت وذاقت معنى الانتصار، أدركت أن طريقها إلى التحرر لن يمر إلا عبر التعليم، الذي كان مكلِّفًا للإناث، على عكس الذكور الذين تُعطى لهم فرصة التعليم المجاني. فلما كانت العائلة فقيرة، لم يكن من أولوياتها تعليم جيزيل أصلًا، وسارت مخطّطات والدتها في طريق تزويجها، كحال معظم الفتيات في ذلك الزمن.
لم تجد جيزيل أي طريق سوى التعلم الذاتي. فكانت تقرأ كل ما يقع في أيديها من كتب، حتى تمكنت من الحصول على منحة بعد اجتيازها مسابقاتها بنجاح. وهنا، بدأت جيزيل مرحلة جديدة، اكتملت في فرنسا بدراسة المحاماة. كانت حياة جيزيل الصعبة مُلهِمة لها للنضال من أجل حقوق النساء، والنضال ضد الاستعمار الفرنسي، وتَمثّل هذا بدفاعها عن مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ثم بوقوفها وقفة حق مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، لتصبح حياتها الممتدة قرابة القرن من الزمن، رحلةَ كفاح ونضال تُدرّس في كتب التاريخ المعاصر.
في الوقت نفسه الذي توفّيت فيه المناضلة، تُوفي طبيب “الغلابة” في مصر، الذي وقف حياته على علاج الفقراء. وقد نعاه الشعب العربي كله، وانتشرت قصته باعتبارها واحدة من قصص الخير، التي نقشها الفقيد نفسه بماء الذهب على صفحات التاريخ. وقد لفت انتباهي -وأنا أُتابع الحدثَين وأقرأ عن حياة الفقيدَين-، نقاشٌ محتدم على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، بين فريقَين يؤمنان بالتغيير، لكنْ بطريقين مختلفين تمامًا. أحدهما لا يرى حلًّا إلّا بقلب الطاولة رأسًا على عقب، والآخر يؤمن بالتغيير التدريجي الذي يحتفي بالمبادرات الفردية والجماعية، التي تتراكم لتُحدث فارقًا كبيرًا.
لِكوني من الفريق الثاني، فقد أَعطيتُ كل تركيزي لفهم وجهة النظر الأخرى، فإذا بي في كثير من الأحيان أمام عقلية متصلبة تحتقر الرأي الآخر ما دام لا يتفق معها بنسبة 100%، وتريد كل شيء أو لا شيء، وتهاجم من يتحدث بالنماذج المشرِّفة، أو يَعتبر الاحتفال بالنجاحات الفردية مرفوضًا؛ إذ إنه يحمل في طيّاته -حسب وجهة نظرهم- لومًا للضحايا الآخرين الذين لم يتمكنوا من النجاح. إنها عقلية تَعُدُّ التوعية استعلاءً على الآخرين، وأن المجتمعات ليست في حاجة إلى توعية إنْ تغيّرت المنظومة. وهي عقليةٌ ترفض الحديث في نقد المفاهيم والموروثات، وتَعُدُّ كل هذا الكلام غير مُجْدٍ.
التوعية ليست استعلاءً، ولم تكُ يومًا كذلك، والمجتمع في حاجة إليها في معركته لنيل حقوقه. وخير مثال على ذلك معركتنا لوقف العنف ضد المرأة، إذ إننا لا يمكن أنْ نُغفل دور الضغط المجتمعي في هذه القضايا، الذي يجعل المطالَبة وَحْدها بتغيير القوانين دون توعية شاملةٍ، ناقصةً. فالخوف من كلمة “مطلَّقة”، الذي يدفع الكثير من النساء إلى قبول أوضاع غير صحية، لن تُغيّره القوانين، بل ستغيّره التوعية وتغيير نظرة المجتمع إلى المرأة. ثم إن تعديل القوانين، لا يسير إلّا من خلال نواب الشعب، الذي إنْ لم يُغيّر أفكاره بالتوعية، فلن يصوّت لقوانين أكثر عدلًا. وهذا من المستبعَد أن يحصل حاليًّا. لهذا، فإن العمل يجب أن يكون على توعية الأجيال الحالية والقادمة بقيمة المرأة، وبأنّ أي تقدُّم لن يحصل إلّا بسن قوانين تكفل العدالة لأي إنسان، بوصفه مواطنًا كامل الحقوق.
لا يمكن الاستهانة بالنجاحات الشخصية التي تتخطّى الحواجز، وتُركّع كل المعوقات. فعدمُ نشرها أو الاحتفال بها، جحود وظلم. ثم إن عدم تقديم هذه النماذج رسالة إلى الأفراد تَبعث على اليأس، لا سيما أن هذه النماذج كثيرة وموجودة، والكثير منها يعود ليساهم في التغيير، بعد امتلاكه قوة وسلطة أكبر.
آخِر ما نحتاج إليه اليوم هو الدكتاتورية الفكرية، التي تحاول فرض رأي واحد على الجميع، لا سيما فيما يتعلق بدوره في المجتمع. فلكلّ فرد أهدافُه، وجوانب إبداع، وآراء تختلف عن الآخر. وأختِم بمقولة للأديبة الكويتية بُثَينة العيسى: “العنف الجسدي واللفظي هو الأكثر وضوحًا. ثمّة عنف آخر: شخصٌ يخبرك بالضبط كيف تفكر وكيف تشعر”.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.