بوصفه جزءًا من دراسة بحثية كنت أجريها، قمت باستطلاع آراء مجموعة من اليمنيين/ات، لمعرفة تصوراتهم/هنّ حول الحرب الدائرة في اليمن. كان أفراد العيِّنة المختارة يغطون مختلف الأطراف المتحاربة، وكان الهدف فهم كيف ينظر أتباع هذه الأطراف ومؤيدوها إلى دوافع الحرب ومساراتها.
النتيجة اللافتة التي وجدتها لم تكن السرديات المختلفة عن الحرب، لأن اختلاف التوجه شرط اختيار العينة، بل اللافت أن مستوى القناعات العميقة التي أبداها الأفراد تجاه ما يتمسكون به، وغياب قابلية النقاش حول هذه القناعات، إضافة إلى الوقائع المثبتة التي جرى عرضها على المستطلعين/ات، والتي أظهرت تورط الأطراف التي ينتمون إليها في جرائم ضد المدنيين – لم يكن لكل ذلك تأثير في تغيير المواقف؛ بل على العكس، دفع الأفراد إلى القيام بمواقف دفاعية أكبر، لتبرير هذه الأفعال بمسوغات عديدة أكثرُها غير منطقي، أو لاحتسابها ضمن إطار مقايضة الأفعال، أيْ قياس الجريمة بمعيار ما ارتُكب من الخصوم، وليس لكونها فعلًا يتطلب موقفًا أخلاقيًّا.
هذه الظاهرة ليست محدودة في جغرافية معينة، بل هي سائدة في أماكن مختلفة وقضايا عدة نعيشها في حياتنا اليومية، وفيها يتجاوز الفرد مركزية الحقيقة في تعامله مع الشأن العام، إلى مركزية جديدة يتحول من خلالها إلى ممارِس لفعل الولاء. ولا يتعلق الأمر بالجهل أو الذكاء، بل بالقبَلية المعلوماتية -حسب تعبير الكاتبة الأميركية أماندا توب-. أيضًا الأخبار الكاذبة عن الخصوم، تصبح وسيلة من وسائل الدعم في نظر المناصرين/ات. لذلك، تصبح الكثير من النقاشات العامة على شبكات التواصل الاجتماعي، باحاتٍ مُرفَقة بميادين الصراع، ويحل المناقشون/ات في مواقع المحاربين/ات، وتصبح الحقائق فاقدة القيمة بنظر هؤلاء.
في روايته الشهيرة سنة 1984، قدم الكاتب الإنجليزي جورج أورويل نموذجًا لعالَم يعيش حالة “ما بعد الحقيقة”، للدلالة على الظرف الذي تفقد فيه الحقيقة مرجعيتها، وتصبح بلا جدوى أو أي تأثير. وهو الواقع الذي بتنا نشهده اليوم. ففي العام 2016، اختار معجم أكسفورد كلمة Post‑truth (ما بعد الحقيقة)، بوصفها كلمة العام، لكثرة تداولها وشيوع دلالتها. وهي نفس الكلمة، التي اختارها أيضًا المعجم الألماني في العام نفسه، وذلك في إشارة إلى تنامي ظاهرة حلول المتخيَّل والإشاعة والخطاب الدفاعي، مكان الحقائق في بُنية القناعات لدى شريحة كبيرة من المجتمع. وهذا ما يعبر عنه بعض المهتمين/ات بنشوء الحقائق البديلة.
عُرفًا، كان التداول العام للنقاشات يأخذ شكلًا منهجيًّا بعض الشي، إذ تنقسم الآراء إلى قسمين أو عشرة أو حتى مائة، وتبقى الحقائق الموجودة في المنطقة الحيادية، محور ارتكاز لتلك التداولات. قد يختلف الناس في تفسيرهم لبعض جوانب تلك الحقائق، لكنهم يعودون إلى جوهرها بوصفها مرجعية في ضبط بوصلة التداولات النقاشية. ولذلك، كانت الاحتمالية كبيرة في تغير القناعات، وفقًا لما يُعرض من حقائق مثبتة. إن الذي تَغير حاليًّا، هو تحول الولاءات إلى أساس، والحقيقة إلى هامش. وبموجب ذلك يجري إنتاج عدد هائل من الإشاعات والأخبار الكاذبة، ويقوم الولاء بتثبيط أي دافع إلى معرفة الحقيقة، ويملأ مكانها بالحقيقة البديلة أو المتخيلة. أيضًا تسهم وسائل إنتاج المعلومة الموجهة في تغذية توجيه المجتمع وتحريكه، والتي برزت في الآونة الأخيرة مع صعود هائل للشعبوية.
بقدر توسُّع هذه الشريحة من المتحمسين/ات الموالين/ات، تبرز فئة أخرى من المجتمع، تمثل ظاهرة الهروب الكبير، أو كما تسمى في اليمن بجماعة “الله يحق الحق”، وهم الأفراد الذين لا يرغبون في معرفة أي شيء، ويفضلون البقاء خارج دائرة الحقيقة. وحين يطالبون بموقف أو رأي حيال قضية ما، يواجهون ذلك بمنطق اللاأدري. ومع افتراض حسن النيّة لهذه المجموعة، تبدو كُلفة البحث والتفتيش عن الحقيقة مهمة مُضنية وباهظة للكثير، وتبرز بوصفها أحد أسباب هذا العزوف.
لإعادة الاعتبار للحقيقة، يتحتم التوقف عن ممارسة فعل الولاء، بطريقة تتجاهل التقييم الموضوعي لكل ما يحدث في مسرح الشأن العام، والنظر بموضوعية إلى الوقائع والأحداث، والتعامل مع الأطراف والأحداث وفقًا للحقائق المثبتة وليس لعواطف الولاء. فالاعتقادات والمواقف من دون دليل، خطأ من الناحية الأخلاقية، وبصفتنا محاورين وناقلين لما نعتقد، ملزمون أخلاقيًّا عدم تلويث “بئر المعرفة الجماعية” -حسب قول الفيلسوف وليام كليفورد-.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.