كنتُ في زيارة رمضانيَّة الأسبوعَ الماضي، لأحد الأحبّة من تلامذتي المُبدِعين، في بيِته المؤثَّث بجَمالٍ آسِر. فجأةً، أقبلَتْ قطّة تمشي بهدوء، وتتحرك بخُطًى مَحسوبة، ثم تُلامس ثيابَنا برفق، وتُخفي نظرةً دافئة مَلْأَى بالرِّقَّة، كنظرةِ عاشقة. سألْتُ تلميذي: “مِن أين لك هذه القطة؟”. أجابني بأنه اشتراها قبلَ أشهُر شفقةً بها، لأنه لحظةَ وقَع نظرُه عليها في القفص، أثارتْه نظراتُها المفجوعة، وجَلْجلتُها المدوِّيَة، وضجيجُها المستغيث، وكأنها تلتمس منه فَكاكَ أغلالِها وأسْرِها، مِنَ القفص الذي كادت تُحطِّمه بِغَيظها. فأشفَق عليها واشتراها من البائع، لِكي يُحرِّرها من الاستعباد، ويخلّصها من سجنها الكئيب، الذي كانت تُكابد مراراتِه.
الحريةُ نمطُ وُجودٍ يعيد تشكيلَ كينونة الكائن، ويتسامى بها إلى الحدّ الذي يجعل الحياةَ ترتسم له بصورةٍ باهِرة. تحدَّث إلَيَّ تلميذي بِطبائع القطة بعد أن تحرّرَت من الاستعباد، وكيف أعادت الحريةُ بناءَ نمط وُجودها في العالَم، فصارت كائنًا مختلفًا بطبائعه وسلوكه. كان يتلذّذ بالحديث في مشيتها وسلوكِها، وما تفيضه على فضاءِ البيت من سكينة، وما يتحسّسه هو نفسُه من أطيافٍ فاتِنة للحياة، تتدفَّق من حضورها الجذّاب.
تأمَّلتُ عباراتِه وهو يتكلّم عن قطَّته، ورأيتُ بَهْجتَه لحظةَ يصفها بكلماتٍ أخّاذة، وتساءلتُ: لماذا يفضِّل كثيرٌ من الناس أنْ يستضيفوا الطيورَ والبلابل والبَبْغاوات والقِطط، وغيرَها من الحيوانات الأليفة، لتعيشَ معهم تحت سقفٍ واحد، فيُنفقوا عليها، ويهتمُّوا بطعامها ونظافتها وتطبيبها، لا سيّما عندما يعيش المرءُ منهم وحدَه، في حين لا يبادرون إلى استضافة البشر للعيش معهم في البيت؟! فأجبتُ تَساؤلي: إنَّ البشرَ -مهْما يكُنْ- قد لا يتخلّصون من استعدادٍ لفعلِ الشرّ، الذي لا يخلو من لُؤمٍ وخبثٍ أحيانًا، مترسّبٍ في أعماقهم. أمَّا الحيوانُ، فكائنٌ يخلو من الشرّ. والحيواناتُ المفترسة عندما تشبع، لا تفترس الحيواناتِ الأخرى، ولا تهتمُّ بوجودها حولَها، ولا تتحرّش بها. وذلك ما يدعو برأيي الناسَ الذين لا يطيقون الوَحدة، إلى تفضيل الحيوان على البشر للعيشِ بمعيَّتهم، لشعورِهم بالأمانِ التامِّ مع الحيوانات الأليفة.
تذكَّرتُ، وأنا أتحدَّثُ إلى تلميذي، سجنَ البَبْغاءِ وإذلاله، في الحكايةِ الشَّائقة من حكاياتِ المَثْنَوي لجلال الدين الرُّومي، الناطقةِ بالحكمة، والمتلألئة بالبصيرة المُلهِمة، وكيف كان الببغاءُ يتلهّف على الحرية في سجنه المظلم، واستعبادِه في القفص، الذي حاول بعضُهم تأويلَه بسجن الجسد للروح؛ وإنْ كنتُ أراهُ سجنًا للجسد قبل الروح، لأنَّ كلَّ سجنٍ استعباد، وسجنُ الجسد ينخر الروحَ ويجرحها، فتظلُّ تنزف حتى تتبدّد طاقتُها وتَنضب. يرسم جلالُ الدين صورةً مفجِعة، للغمّ الذي كان يعيشه البَبْغاءُ على إثر شُعوره بالاستعباد، ويصف غمَّه بشَجَن مُلْتاع، عندما يتحدث على لسانِ البَبْغاء السجين بِتَوقِه إلى الطيران بحرية، وهو يخاطب رفاقه من البَبْغاوات الحرّةِ في الغابات من مَحبسه قائلًا:
“أيَلِيق أنْ أُسْلم الروح شوقًا إليكم، وأموت هنا مفترقًا عنكم؟ وهل يجوز أنْ أكُون أسيرَ القيدِ الثقيل، وأنتم حينًا فَوق المُروج، وحينًا على الأشجار؟! وهل يكُون هكذا وفاءُ الأصدقاء؟ أنا في هذا الحبس، وأنتم في حديقة الورد؟ ألَا فلْتَذكُروا -أيُّها الكِرام- ذلك الطائرَ الذليل، بِصَبُوحٍ بين المُروج! فما أسعَدَ الخليلَ إذا ذكَرَه خُلَّانُه… فيا مَن تُنادِمُون مِلَاحَكُمُ الفاتناتِ الحِسَانَ!”.
هذه حكايةٌ طويلة، تتضمن تفاصيلَ وحِكمًا متنوعة، أوْرَدها جلالُ الدين في المَثنَوي، بأسلوبه الباهِر في إنشاء الحكايات. لا نريد الانسياق وراءَ تفاصيلها، ومحطات الحوار الشجيّة فيها بين البَبْغاءِ وصاحبه. إنَّها تتضمن تحليلًا سيكولوجيًّا للتضادّ في الطبيعة البشرية، ومفارَقات سلوك الإنسان، الذي هو في الوقت الذي يحُبّ فيه البَبْغاء، يسجنه في القفص، ولا يكترث لِأَنينِه وزفراته، التي لا تهدأ من عذابِ الاستعباد ومراراته.
أيضًا حُبُّ الإنسانِ ينطوي على مفارَقة. فهو في الوقتِ الذي يُحبّ فيه، لا يكتفي بالحُبّ، بل قد يعمل على الاستحواذِ والتملُّك. والاستحواذُ والتملُّك، يَؤُولان إلى الاستعباد. الإنسانُ لا يتنبَّه على ما ينطوي عليه سلوكُه هذا مِن تَضادّ، لأنَّ الطبيعة البشرية مُلتقَى الأضداد. وذلك ما يقود الإنسانَ إلى مُفارَقات غريبة في مَواقفه وسلوكه، إذْ قَلّما نجد إنسانًا يتخلص بشكلٍ تامٍّ من الازدواجية والمواقف المتضادّة في أقواله وأفعاله.
إنَّ الاستعباد لا يُطيقه حتى الحيوان، عندما يستنزفه الشعورُ بأنه صار ضحيَّةَ إذلالٍ وامتهان وإهانة. فكيف يكُون حالُ الإنسان العاقل، الذي تُشكِّل العواطفُ والمشاعر رصيدًا أساسيًّا في كِيانه، إنْ كان ضحيَّةَ استعبادٍ يَهتك كرامتَه ويمزّق كيانَه الداخلي؟ ذلك ما سنتحدَّث به في مَقالات قادمة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.