دُعيتُ إلى إحدى حلقات النقاش عبر واحد من التطبيقات الحوارية المنتشرة، لأعطي رأيي فيما يُعرف بفحوصات العذرية، وهي -لِمن لا يَعرف- أن يطالب الأب (أو ولي الأمر) بفحص ابنته عند تغيُّبها عن المنزل، والتحقق من أنها ما زالت عذراء. ذلك عُرفٌ ما زال قائمًا في بعض الدول، على الرغم من أن القوانين لم تعُد تدعمه إطلاقًا. ثم توسَّع الحوار ليشمل مفهوم الهوَس بالعذرية عند العرب، والذي دفعت ثمنه المرأة غاليًا من حياتها وكرامتها.
لم أستطع -وأنا أستمع للمداخلات- أن أمنع نفسي من تذكر إنسانة كرَّست حياتها للدفاع عن كرامة المرأة، ووقفَت في وجه المجتمع الذي لا يرى الشرف إلا في أجساد النساء، وطالبَت بأن تكون السلطة على جسد المرأة للمرأة وحدها، لا للقبيلة والمجتمع وذكور العائلة. ولهذا، حوربت في حياتها، وهوجمت في حياتها ومماتها.
كتابها "المرأة والجنس" كان طَوق نجاة لكثير من الفتيات السجينات في أجساد منهكة من المعلومات المضلِّلة، التي تتعرض لها الفتاة من محيطها المشوَّه، المملوء من النساء اللواتي مُورس عليهن سنوات من الكبت والتحكم والسيطرة والتخويف من الجسد ورغباته؛ ما أدَّى بهنّ إلى كراهية جسدهنّ ورغباتهن وقمع أحاسيسهن، بل وإلى التفاخر بالبرود وكأنه صك شرف. معلومات أدت إلى صراعات داخلية عميقة، كانت تتفاقم مع كل ما تقرؤه المرأة من معلومات مكتوبة بأقلام رجال أو نساء مقموعات.
لا يمكن أن تقرأ امرأة كتاب "المرأة والجنس" دون أن تتنفس الصعداء، وتسعد لكونها أخيرًا اكتشفت أنها إنسانة طبيعية في محيط منافق مرعوب، وتكتشف أن رغباتها الداخلية لم تكن استثناء حسب ما كانت تتخيل. وضعت "نوال السعداوي" يدها على الجرح، وساعدت كل فتاة على اكتشاف أجوبة لأسئلة كانت حتى مدة طويلة محرَّمة، وغير مسموح بها.
قدَّمَت نوال شرحًا كاملًا للمرأة، بيَّنَت لها فيه لماذا وصل حالها إلى ما وصل إليه، وأوضحت فيه أن المرأة كالرجل سواء في الذكاء أو في الرغبات. لكن، لكي يسود الرجلُ المجتمعَ الأبوي، ويمتلك السلطة وأزرار التحكم، كان يجب أن يقوم بعملية ممنهجة، لتفخيم دوره وذكائه وقدراته الجنسية. وفي المقابل، يعمل على تقزيم المرأة وتجهيلها، والتقليل من رغباتها، وقمعها وتحويلها إلى وعاء يُفرغ فيه الرجل رغباته. فإنِ اعترضَت المرأة وعبَّرت عن أحاسيسها ومتطلبات جسدها، ثار هو والمجتمع في وجهها، ووصفاها بقلة الحياء وبالعهر. أمّا الطريقة الوحيدة أمامها إلى الحفاظ على صورتها المحترمة أمام المجتمع، فهو الرضوخ، بل وتَصنُّع البرود، ومهاجمة أي امرأة أخرى تُعبِّر بحرية.
كل ما سبق من تحطيم لإرادة المرأة، لم يكن لِينجح لولا فرْضُ عنفٍ آخر عليها، وهو العنف الاقتصادي الذي تتعرض له المرأة منذ أن تولد. فقصقصة أجنحتها، وحرمانها التجارب، إضافة إلى عدم مساواتها بالرجل في الميراث وأحيانًا حرمانها التام إياه، وزيادة أعبائها كإضافة الأعباء المنزلية إليها مع الدراسة، وترهيبها من جسدها والتخويف من فقد العذرية حتى بممارسة الرياضة، لكي تتحول إلى كائن مرعوب خائف من القتل والتعزير في أي لحظة، ثم إيهامها بأنها كائن برغبات جنسية محدودة - كل ذلك يجعلها تَقبل أنْ تكون نصف امرأة، أو ربع امرأة، لرجل جرى تفخيم رغباته عمدًا وكذبًا.
لقد حاربت نوال السعداوي الختان سنوات طويلة، ودفعت ثمنًا باهظًا لذلك، لكنها أنقذت فتيات من القتل بسبب وَهْم العذرية، وأخرجت ملايين النساء من الصراعات النفسية العقيمة بينهن وبين أجسادهن، وهي نزاعات استهلكت الوقت والعقل والطاقة، بل والعمر في أحيان كثيرة. وأيضًا حرضت المرأة على التفكر والخروج من القوالب الجاهزة، وعلى العمل وكسب الرزق، وبينت أن مفتاح المرأة في حياة آدمية هو الاستقلال الاقتصادي، لأن هدف المجتمع الأبوي هو تحويلها إلى كائن ضعيف فقير اقتصاديًّا، مكبوت جنسيًّا، يشعر بالعار تجاه جسده ورغباته. وهذا ما يجب على كل امرأة محاربته.
جسد المرأة مِلكٌ لها، وجسد الرجل مِلك له. والميزان هو العقل، والعقل هو الرُّبَّان الذي يقود أجسادنا، وهو الذي يميزنا عن سائر الكائنات. فالواجب هو الاستثمار في العقول وتغذيتها بالمعرفة، بدلًا من التخويف من الأجساد. اترُكوا المرأة تتكلم عن نفسها، وتُعبِّر عن أحاسيسها ومشاعرها ورغباتها، وتقرأ لمن يمثِّلها ويعبِّر عنها من بنات جنسها، وتوقَّفوا عن التخويف من حرية الفكر والتعبير. فلم يعُد في الإمكان فرض الرأي الواحد، الذي يتناقض مع العقل والعلم في عالم فضاؤه مفتوح، أصبح الحصول فيه على المعلومة أسهل من أي وقت مضى.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.