الغاية من خلق الإنسان -في القرآن- هي عبادة الله: {وما خَلقتُ الجِنَّ والإنس إلَّا لِيَعبُدون} [الذاريات: 56]، والغاية من عبادة الله هي التقوى، كما قال تعالى: {يا أيها الناس اعبُدوا ربَّكُم الذي خلَقكم والذين مِن قَبْلِكم لعلَّكم تَتَّقُون} [البقرة: 21]. وهذا يعني أن التقوى تُمثل "غاية الغاية"؛ إذ هي لبّ العبادة ومقصدها الأعظم. وعلى هذا الأساس، نجد أن جميع العبادات قد اقترن تشريعها بمقصد التقوى. ومن تلك العبادات عبادة الصيام، التي جاء فيها: {يا أيها الذين آمَنُوا كُتِب عليكم الصيامُ كما كُتِب على الذين مِن قَبْلِكم لعلَّكم تَتَّقُون} [البقرة: 183].
الصيام هو عبادة تُجسّد معنى العبودية وإسلام القلب لله، ولا يتوقف معنى العبودية في المنظور العرفاني عند معنى الطاعة والخضوع لله، وإنما يبدأ من الخوف والسُّخرة وينتهي إلى المحبة والحرية. والصيام عبادة تُظهر إخلاص الإنسان لله، والصائم لا يَعرف حقيقة صومه أحدٌ سوى الله. فقد يأكل أو يشرب دون أن يدري به أحد، ومن هنا جاءت خصوصية الصيام بوصفه عبادة خفية بين العبد وربه، كما في الحديث القدسي: "كلُّ عملِ ابن آدم له إلَّا الصوم فإنَّه لي وأنا أَجزي به، تَرك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي" (رواه البخاري).
ليست التقوى مرتبة واحدة، وإنما هي مراتب متفاوتة. ومن الآيات التي تشير إلى تعدد مراتب التقوى قوله تعالى: {ليس على الذين آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ ثم اتَّقَوا وآمَنُوا ثم اتَّقَوا وأحْسَنُوا واللهُ يحبُّ المُحسِنِين} [المائدة: 93]. فقد أشارت الآية إلى ثلاثة أصناف من المؤمنين وصنفَين من المتقين: "الذين آمَنُوا وعمِلوا الصالحات"، والذين "اتَّقَوا وآمَنوا وعملوا الصالحات"، والذين "اتَّقَوا وأَحسَنُوا". فالتقوى في أسمى درجاتها تزداد بالمزيد من الإيمان والعمل الصالح "ثم اتَّقَوا وآمَنوا" حتى يجتمع معها "الإحسان"، والأتقياء "المحسنون" هم الذين ارتقوا من "تقوى الجوارح" إلى "تقوى القلوب"، ومِن اتقاء الله خشية عقابه إلى اتقائه تعالى حياءً من محبتهم له.
أعظم درجات التقوى هي تقوى المحبين العارفين، الذين بلغوا مقام المشاهدة، كما يقول ابن جزي في كلامه عن درجات التقوى: "وتبلغ ذروتها في أن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة" (التسهيل لعلوم التنزيل). والمتقون هم مَن استقر في قلوبهم تعظيم الله، واستحضروا رقابته، وحفظوا نوره في قلوبهم، كما يقول الحكيم الترمذي: "والتقوى أن تجعل ذلك الشيء النفيس في حراستك فتحرسه من الآفات، وأنفسُ شيء أعطاك الله وأشرفُه وأعظم قدرًا معرفته. فتَقْواك أن تجعل حراستك وقاية لذلك النور" (تحصيل نظائر القرآن).
وفي كلام جميل للشيخ محيي الدين بن عربي يبين فيه أسمى معاني التقوي، من خلال مقارنة دقيقة بين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حقَّ تُقاتِه} [آل عمران: 102]، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ويَخلص ابن عربي إلى أن: "تقوى اللّٰه بالاستطاعة أعظم في التكليف، فإنه عزيز أن يبذل الإنسان في عمله جهد استطاعته، لا بد من فضلة يبقيها، وفي حق تُقاته ليس كذلك" (الفتوحات المكية).
وهذا المعنى العميق نجده في إجابة المسيح عليه السلام، عندما سأله أحد علماء اليهود لِيُجَرِّبَهُ قِائِلًا: "يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هي العُظمَى في النامُوسِ؟" فقال له يَسُوعُ: "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِن كلِّ قَلْبِكَ، ومِن كلِّ نَفْسِكَ، ومِن كلِّ فِكرِك. هذه هي الوصيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى" (متى 22: 35- 38). فمحبة الله على قدر ما يستطيع الإنسان، هي أعظم الوصايا التي جاءت بها شريعة موسى عليه السلام، وأكدها المسيح عليه السلام، وصدّقها المصطفى في رسالته الخاتمة.
فالتقوى تبدأ بتعظيم شعائر الله: {ذلك ومَن يُعظِّم شَعائرَ اللهِ فإنها مِن تَقْوَى القلوب} (الحج: 32)، وتنتهي بمحبة الله. ومن دقائق معنى "لعلكم تتقون" في آية الصيام، أنها تُلمِّح إلى تَلطُّف الله بالإنسان وعظيم محبته للمتقين. فهو تعالى يرجو للناس جميعًا التقوى ويريدها لهم، ولذلك يرغِّبهم فيها ويبشرهم بحبه لهم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]. فالحب لا يقابله سوى الحب، والمتقون هم المحبون لله تعالى.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.