شاهدتُ في أحد الأفلام الوثائقية القصيرة، مجموعة من رجال الدين المسلمين (السنة والشيعة) والمسيحين، يتكلمون عن أدوار مختلفة قاموا بها خلال العشرين عامًا الماضية في لبنان، ليس لها علاقة بالسياسة ولا بممارسة الشعائر الدينية، بل بالعمل الاجتماعي العام وخدمة الناس وتحسين معيشتهم، وهي خدمات تُقدَّم لجميع المواطنين واللاجئين والمقيمين على أرض لبنان، بدون أي تفرقة أو محاباة أو تمييز، مثل: تأمين دُور رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، وبيوت إيواء للأيتام، ومشاريع لمساعدة المحتاجين من كل الطوائف، ومراكز صحية.
الفيلم يتحدث بالدور الاجتماعي لرجال الدين من كل الطوائف، الذين اجتمعوا واستخلصوا العبر من سنوات النزاع الدامية التي لم تَزِد البلاد إلا فقرًا وعنفًا، ولم يَخرج منها كاسب. دماءٌ يجب ألَّا تذهب هدرًا، بل يجب أن تكون ثمنًا للسلام ونبذ العنف وتحسين أحوال الناس. لا يمكن أن تستمر في مشاهدة الفيلم دون أن تدمع عيناك. فلقد وجدتَ ضالَّتك أخيرًا. الأديان التي وُجِّهَت إليها تهم التفرقة وتأجيج الصراعات، ها هي أمامك بمُمثِّليها بريئةٌ من كل تلك التهم، وها هو دورها الحقيقي هنا أمام المُشاهد في هذا الفيلم الوثائقي. دَورها هو العمل على الفرد والاهتمام به ورعايته، وحفظ الكرامة الإنسانية وإعمار الأرض. أما أعداء الأديان الحقيقيون -حسب ما يَظهرون في الفيلم-، فهم ليسوا أبناء الديانات أو الطوائف الأخرى، أو أصحاب المعتقدات والأفكار المختلفة، بل هُم الفقر والجهل والذل وفقدان الكرامة.
لا نَسمع برجال الدين هؤلاء في الإعلام كثيرًا، فهم يعملون بصمت وسلام، لا يُحْدثون ضجة، ولا يتحالفون مع السياسيين من أجل مصالح خاصة أو محدودة، ولا يسعون للشهرة، وإنما جُلُّ اهتماماتهم هو الناس على الأرض، ومصالحهم واحتياجاتهم وحقوقهم الإنسانية. فيسعون لنشر تعاليم الله، تعاليم لا يمكن أن تتعارض مع حقوق الإنسان، بل تتوحد معها في هدفها الجامع، وهو حفظ الكرامة الإنسانية.
الأديان التي جعلت الرحمة عمودًا من أعمدة الإيمان، لا يمكن أن تكون أديانًا انتقائية. والانتقائية إن وُجدت، هي مِن صنع البشر، وتفسيرات البشر. كيف لا وهي تتنافى ومبدأَيِ العدالة والرحمة؟! والله الرحيم لا يمكن أن ينتقي فِرقًا من الناس ويُحابِيها في الرحمة، أو يستثني فِرقًا أخرى؛ أما فِعل الخير للجميع، فهو واجب، كما قال تعالى في القرآن الكريم: {فاستَبِقُوا الخَيْرات}. وقال الرسول: "الراحمون يَرحمُهم الرحمن، ارحَمُوا مَن في الأرض يَرحمْكُم مَن في السماء". وقال المسيح في إنجيل متّى: "طُوبَى لِلرُّحَماء، فإنهم يُرحَمون".
تَخيَّل أنك تسأل طفلًا جائعًا عن دينه قبل أن تساعده! لا يمكن أن تَسمح ديانة بهذا الفعل الشائن، وتحت أي تبرير، ولا يمكن أن يزدهر مجتمع وأفراده على هذه الشاكلة. المجتمعات التي تتطور ويرتفع شأنها مجتمعاتٌ متماسكة، يوجد أفرادها تحت مظلَّة مواطَنة راعية وحاضنة للتنوع، ينتمون إلى فئات ثقافية أو دينية. وكل هذه الفئات تنتمي إلى الوطن الأكبر الجامع، الذي يساوي بين المواطنين/ات أمام القضاء، وتَدعم جهاتُه التعليمية والإعلامية مبدأ الأخوَّة بين أبناء الوطن الواحد، ويعزِّز الخطابُ الديني على منابره مبادئ حقوق الإنسان والعيش المشترك بين المواطنين/ات.
تقترن البطولات التي درسنا عنها في مناهجنا بالعنف. ومصطلح الشجاعة كان حتى أزمان طويلة يعني القوة والقتال والسيف، لكن مناهجنا أغفلَت الاحتفال بنوع آخر من الشجاعة، هو شجاعة الاهتمام بالإنسان، وشجاعة ألا تسعى للمجد الشخصي، بل لنهضة المجتمعات، وشجاعة أن ترى الناس متساوين في الحقوق والواجبات، وشجاعة أن ترفض أي تمييز حتى ولو كان ضد مصلحتك الشخصية، وشجاعة التخطيط لسلام طويل الأمد، يحفظ الحقوق ويعطي الناس أمنهم في أوطانهم، وشجاعة المطالَبة بمواطَنة حاضنة للتنوع، يتشارك فيها كل أبناء الوطن.
يواجه العالمُ اليوم تحديات كبرى صحية وغذائية ومناخية، أثبتت تأثيرها القوي في شل حياة الناس، ووضعت كل خلافات أخرى جانبًا. هذه التحديات أعادت ترتيب الأولويات، حيث جرى وضع صحة المجتمعات في القمة، وتَبيَّن أن العيش المشترك الذي أثبته التضامن على صعيد الأفراد والمجتمعات والعالم أجمع، هو السبيل إلى مواجهة التحديات المستقبلية. وهذا ما نحتاج إليه، تضامُنٌ عابر للانتماءات، يجعل فيه الإنسانُ محور الاهتمام والكرامة الإنسانية، مَرجِعًا لتقييم المواقف والأفكار.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.