كثيرًا ما تصطدم النقاشات الدينية التي تدور في الحياة الواقعية أو في ساحات مواقع التواصل الاجتماعي، برفض كثيرين/ات لآراء دينية وتفسيرات -يمكن وصفها بالمعتدلة- حول هذا الدين أو تلك الطائفة أو هذا النص أو تلك العقيدة، إذ يعبِّر الرافضون/ات –سواء أَمِنَ المحافظين دينيًّا كانوا أمْ من غير المؤمنين- عن تمسكهم بالرأي الأكثر تطرفًا، والذي قد يكون لأسباب عديدة الرأيَ الأكثر رواجًا.
واحدة من مشكلات هذا الرفض، هي استناده إلى رواج الأفكار المتطرفة. فالطائفيُّ الذي يناقش عقيدة طائفة أخرى أو دين مختلف، أو اللاديني الذي يريد تبيان ما يراه خطأً في الدين، لا يستند بالضرورة إلى التعليم الرسمي أو المعتمَد للدين، بل إلى ما هو رائج. وإنْ خُيِّر بين رأيَيْن مال إلى الأكثر تشددًا منهما بحجة انتشاره ورواجه، ونظر إليه باعتباره الأكثر تمثيلًا لجوهر الدين. الخطر في هذه الممارسة هو حصر فهم الدين في هذه الحالة في صورة واحدة، حيث لا خيار مقبول غيرها، وكأنه لا مرونة في فهم الدين، ولا تنوُّع في الآراء والممارسات الدينية -ولو ضِمن حدود تَضيق أو تتسع-.
في نقاش مع رجل دين مسيحي كاثوليكي خلال محاضرة جامعية، طرح أحدهم موضوع قبول الكنيسة الكاثوليكية عقد زواج بين طرف مسيحي وآخر غير مسيحي، بغض النظر عن كون الطرف المسيحي هو الرجل أو المرأة، ضِمن شروط محددة واضحة ومتاحة. فما كان من رجل الدين إلا أن احتدَّ ورفض ذلك رفضًا قاطعًا، مشدِّدًا على عدم صحته أو جوازه، في حين أن الحقيقة كانت إلى جانب من طرح فكرة صحة عقد زواج مماثل؛ إذ إنَّ مجموعة قوانين الكنائس الشرقية التي تَحكم ممارسات الكنائس الكاثوليكية الشرقية في هذا الإطار، تُجيز بوضوح زواجًا مماثلًا. في هذه الحالة/المثال تَمسَّك رجل الدين -عن علم أو عن جهل- بالرأي الخاطئ الأكثر تشددًا، رافضًا حقيقة وجود قانون أكثر رحابة أو قبولًا للآخر مما هو سائد ومتعارَف عليه اجتماعيًّا.
في مثال آخر، يرفض مثقف لاديني حقيقة أن الكنيسة تقول بخلاص غير المسيحيين إن كانت حياتهم ملتزمةً القيم الخيِّرة ومتجنِّبة الشرور، حتى ولو لم ينالوا العماد، أو حتى إنْ كانوا مؤمنين بدين آخر وممارسين لطقوسه. وتتضمن أمثلة مشابهة نقاشات متعلقة بأديان وطوائف أخرى بطبيعة الحال، لكن يبقى الرفض المذكور في إطار التمسك بالتصور أو الفكرة المسبقة السلبية عن الآخر ومعتقده، أو في مسعى شيطنته وتحميله -فردًا كان أو مجموعةً- مسؤولية ما قد اقترف بِاسم الدين.
لا يعني كل هذا عدمَ انزلاق تفسيرات دينية عُدَّت مقبولة -في الماضي والحاضر-، نحو التأسيس لأفعال وممارسات غير مقبولة، لكنه يعني في المقابل أن الدين -كغيره من أمور الحياة مِثل السياسة وغيرها- أمر يَحتمل آراءً متعددة، وفهمًا متنوعًا للعقائد والنصوص، وهذا منبت المذاهب والطوائف والتيارات ضمن الدين الواحد.
من يَدخل كليات اللاهوت ومعاهد العلوم الشرعية، يلحظ في كثير منها ظهور هذا التنوع المقبول، بل المرحَّب به في الآراء. ومعنى المقبول هنا أنَّ الاختلاف في الرأي والممارسة ضِمن حدود معيَّنة، لا يُخرج صاحبه من الدين (أو بتعبير آخَر لا يُكفِّره). وبطبيعة الحال، يتدرج هذا التنوع من الأكثر مرونة أو تحرُّرًا وليبرالية، إلى أكثرها محافَظة وتشدُّدًا. من المهم هنا، ألَّا يكون فهم الدين وتفسير نصوصه وعقائده حكرًا على رجال الدين، بل ينبغي أن يمتد أكثر فأكثر ليشمل فهم المؤمنين "العاديين" له، وطُرقَ عيشهم إياه. لا يمكن نكران وجود نصوص رسمية صادرة عن مؤسسات دينية لها وزنها، تَحمل آراء وأحكامًا متشددة، ولكنها لا تلغي وجود آراء أخرى مختلفة تكرِّس التنوع.
الموقف من هذه الآراء المختلفة -من أي جهة أتى- يجب أن يتضمن الدفاع عنها بوصفها حرية رأي مشروعة، وأن يعمل على تعزيزها، لِكونها توفر البيئة لإنتاج فكري ديني أكثر اعتدالًا، ولأنها -بصفتها مثالًا على حقيقة وجود التنوع في هذا الوسط- تُعتبر مَدخلًا أساسيًّا إلى أي تغيير إيجابي، وأيِّ إصلاح أو تطوير ديني. دعْمُ التنوع في هذا المجال –وفي غيره- هو دعم للحقيقة والغنى الفكري.
أيضًا من وجهة النظر المعادية للدين، لا يمكن لعاقل أن يفكر في إلغاء مليارات المؤمنين بالأديان، بل يجب تعزيز الفكر النقدي وتنوع الآراء، الذي قد يفضي إلى فهْمٍ وصورة وممارَسةٍ أصحَّ للدين، وُصولًا إلى تحقيق المقصد الإلهي الذي يعتقده المؤمنون من وراء الدين، دون مسِّ حقوق غير المؤمنين. أما حصر الفكر الديني المقابل في ثنائية أبيض وأسود لا ثالث بينهما، فلا يصبُّ إلا في مصلحة المتطرفين والمتشددين، الذين -إنْ سادوا وحدهم- ما بقي في الساحة إلا غلاة التشدد من كل طرف، وحينها ستكون العاقبة وخيمة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.