تعرَّض الكاتب البريطاني سلمان رشدي منذ أسبوعين في ولاية نيويورك لمحاولة اغتيال طعنًا، كادت أن تودي بحياته. يرزح الكاتب تحت فتوى أهدرت دمه، أصدرها بحقه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله الخميني عام 1989، بعد نشر روايته "آيات شيطانية" سنة 1988، التي اعتُبر أنها تتضمن تجديفًا مسيئًا لرسول الإسلام ولزوجاته.
أثار إحساسُ العديد من المسلمين بالإهانة بعد صدور "آيات شيطانية"، النقاشَ حول السؤال عن الحدود بين حرية التعبير والرأي ومسألة "ازدراء الأديان"، حتى إن كان على حرية التعبير أن تتوقف عند المقدسات الدينية. على المستوى الدولي، توجهت بعض الدول والمؤسسات الإسلامية إلى الأمم المتحدة، لاستصدار قانون دولي يجرِّم ويَحظُر ما تسميه "ازدراء الأديان"، لكنه لم يحظَ بقبول الدول الغربية، لأن قانونًا مثل ذاك يشكل "تهديدات محتملة لحرية التعبير". لذا، اختارت تلك الدول أن تتمسك بأساسية حرية التعبير وأولويَّتها. فمثلًا: المادة 19 (الفقرة 2) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تنص على أنه: "لكل إنسان حق في حرية التعبير". ولكن مع إباحة التعامل مع المقدس بمقاربة نقدية تخرجه من دائرة المحرمات، فإنها تشدد على رفض حرية تعبير مطلقة قد تشكل تحريضًا على الكراهية (بحسب المادة 20).
من أجل أن نتجاوز ثقافة المنع واستباحة الدماء، يجب علينا برأيي أن نعي أولًا نسبية مفهوم الازدراء؛ إذ من الصعب التمييز بين النقد والإساءة، أو مجرد التقييم الأخلاقي للأفكار والممارسات الدينية، بحسب ما أوضحته رواية الآيات الشيطانية إذ اعتبرها كثيرون عملًا نقديًّا ساخرًا وتخيُّليًّا، لكنه ليس استهدافًا لمشاعر المسلمين. ثم إن مفهوم مسِّ المشاعر الدينية فضفاض وملتبس؛ إذ من الصعب تحديد ماهية الضرر الذي يلحق الآخرين، ويجعله قانونًا عامًّا. فكل تحديد للازدراء، يجري داخل نطاق التحيز الذاتي والثقافي. لهذا، يستحيل تأسيس تحديد قانوني حقيقي لعبارة "ازدراء الأديان".
أيضًا لا يمكن أن نجعل من فكرة إهانة المشاعر الدينية للمسلمين أو غيرهم، سببًا للحد من حرية كاتب ما، أو لتبرير فتوى أو تشريع اغتيال. فالمسلمون برأيي مطالَبون بتقبُّل النقد والنقاش حول ما يعتبرونه إساءة بالغة للإسلام، لأن ذلك هو الشرط الأساسي لبناء مجتمعات تعددية، حاضنة للاختلاف وقابلة للتعايش والاعتراف. يقول الفيلسوف جون ستيوارت: "إذا كان كل البشر يمتلكون رأيًا واحدًا، وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيًا مخالفًا، فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توافرت له القوة".
تجعلنا قضية سلمان رشدي ندخل أخلاق القانون نفسه، إذ إن فلسفة الدولة الحديثة أحدثت تمييزًا أساسيًّا بين الإنسان بوصفه قيمة أساسية مطلقة من جهة، ومعتقداته من جهة أخرى. وهي معتقدات تكتسب قيمتها من قيمة الإنسان الذي يبقى حرًّا في اعتناقها، لكنها تبقى نسبية. وبسبب اختلافها مع معتقدات وآراء أخرى، فهي معرضة للنقد بكل أشكاله. وعليه، تصبح حرية الرأي والتعبير سابقة على كل المعتقدات، وأيضًا يصبح انتقاد المقدسات جزءًا لا يتجزأ من حرية التعبير، بل وشرطًا لإمكانية المعتقد نفسه. بمعنى آخر، يمكن أن نميز -بحسب ما يقول الفيلسوف ستيفن داروال- بين شكلين من الاحترام: "احترام الاعتراف" بحق الآخر في الاعتقاد -ولو أني اعتبر هذا الاعتقاد خاطئًا-؛ و"احترام التقييم"، أي الحق في إبداء رأي -ولو سلبي- حول هذا المعتقد. من هنا، نفهم الترابط الجوهري والأخلاقي بين مبدأ الحرية الدينية ومبدأ نقد الأديان.
يجب على المجتمعات المسلمة برأيي الخروج من الحالة الذهنية التي تكرس نظرية المؤامرة ضد المسلمين، وواجب الدفاع عن الهوية الدينية، خصوصًا عندما يرتبط ذلك بدين أو مذهب رسمي للدولة. وهذه الحالة هي نظرية مبنية على فكرة العقيدة غير القابلة للنقد. فلنتذكر أن قوانين ازدراء الأديان أو مسِّ الذات الإلهية التي تتبناها العديد من الدول الإسلامية، أصبحت أداة قانونية يجري استخدامها للاضطهاد والانتهاك لحقوق الأفراد المتبنين لأفكار نقدية أو غير تقليدية، وأحيانًا تصبح هوسًا استبداديًّا. فكثير منا يتذكرون الفتاة الباكستانية "آسيا بيبي" التي انتظرت ثماني سنوات لتنفيذ حكم الإعدام بحقها بعد أن اتُّهمت بازدراء الدين الإسلامي. بسبب تلك القوانين توسعت دائرة الخوف والمحاكمات التي طالت العشرات من المثقفين والمثقفات المسلمين، وتراجَع النموذج الفكري النقدي مع تصاعد الفكر السلفي والأصولي. لهذا، يجب التركيز على أن حقوق الإنسان تستهدف حماية الأفراد وليس حماية الأديان.
لكني أعتقد أن الدرس الأساسي في قضية سلمان رشدي، هو أن سلوك المسلمين يجب أن ينبني على مبدأ لاهوتي أساسي، وهو أن الله لا يحتاج إلى من يدافع عنه، وأن حبَّنا وخضوعنا لله لا يمكن أن يبرر قتل إنسان. فالحقيقة قوية بنفسها، ولا تحتاج إلى خنجر نغرزه في عنق من لا يعترف بها، أو حتى يستهزئ بها. والله أعلم
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.