لا يمكن لأحد مهما أجاد التعبير والوصف، أن ينقل هول عصف الانفجار –ولو عن بُعد كيلومترات من مكان وقوعه أمس في مرفأ بيروت-. الكارثة غير المتوقعة كشفت عن هولها مع تتالي الأخبار، ولم يعد من الممكن استيعاب فدح الخسارة والدمار في البشر (شهداء وجرحى)، وفي الأبنية والمركبات. وفي لحظة، تصدرت بيروت -الجريحة أصلًا- نشرات الأخبار حول العالم.
أيضًا المناطق والأحياء التي تبعد كيلومترات عديدة عن مكان الانفجار، تضررت أبنيتها وتَكسر زجاج نوافذها، وغصت المستشفيات بالجرحى، حتى تحولت صيدليات الأحياء مكانًا لمداواة جروح من كان يبحث عن مساعدة. ولا يزال عدد الشهداء والجرحى يتصاعد، وعائلات بأسْرِها مفجوعة، تبحث عن مفقود، أو هي نفسها تشردت بعد دمار بيوتها. وفي المقابل، انتشرت المبادرات التي عرض فيها بعضهم منازلهم وفنادقهم وصالات دُور العبادة، لإيواء من فقدوا منازلهم، وهبَّ الكثير ممن بادروا إلى التبرع بالدم نجدةً للمصابين والجرحى، معبِّرين/ات بذلك عن حالة من التضامن، تسبغ شيئًا من التعزية والسلوان على القلوب الكليمة.
في الوقت نفسه، كان الحزن والقلق الممزوجان بغضب شديد في تصاعد، نتيجة معاناة بدأت قبلًا بسبب الانهيار المالي، ومعاناة جائحة كورونا التي لم توفر بلدًا من شرها.
مع قتامة الأفق، واليأس من المستقبل القريب على الأقل، ليس هذا الانفجار نكبة بيروت الأولى، بل إن اللبنانيين/ات الذين عشت بين ظهرانيهم قرابة عشرين عامًا، يعرفون بالفطرة كيف ينهضون من بين الرماد مرة بعد أخرى، رغم جروحهم الجسدية والنفسية، ليبنوا مدينتهم وبلدهم مرة بعد أخرى، ويرمموا أرواحهم التعبة، ويثبتوا لأنفسهم وللعالم أن بيروت لا تموت، لا بيروت فقط، بل لبنان البلد، ولبنان الرسالة.
الحزن والقلق والغضب، كلهم اليوم محقُّون، بل لازمون، وهم سيشكلون دافعًا إلى التوحد ورفع الصوت، نحو التضامن والتعزية وإعادة البناء والمحاسبة. فالمحاسبة والتقويم لكي يرجع لبنان كما كان وكما يستحق أبناؤه، وكما يحتاج هذا الشرق الذي ما فتِئ يخرج من عاصفة حتى يَدخل أخرى.
قد يكون لبنان اليوم في أمس الحاجة إلى المساعدة ومد يد العون، من قبل أبنائه المقتدرين، ومن قبل الدول الأخرى القادرة على المساعدة. فالظرف دقيق جدًّا، ولربما لم يكن بهذا السوء حتى في أيام الحرب الأهلية الطويلة، التي قضمت 15 سنة من عمر هذا البلد. ولكن، أن يُترك لبنان ليغرق في بحر الظلمة والفساد والمحسوبيات والإهمال والتبعية، ليس خيارًا لأحد، إلا لمن عدَّ نفسه عدوًّا لهذا الشعب وهذا البلد.
كثيرًا ما كنت آخُذ قبلًا القول بـ”لبنان الرسالة” على محمل الاستخفاف، ولكني أعي اليوم بوصفي لاجئًا سوريًّا في لبنان، سبق أن قضى أكثر من نصف عمره فيه، أن التجربة اللبنانية على علَّاتها ينبغي أن تُدفع نحو التقدم ومعالجة العلل، وتقديم مثال على التنوع وصون الحريات الفردية والعامة، في شرقٍ هو أحوج ما يكون إلى هذا المثال، وأنَّ ترك هذا المثال يسقط لأسباب سياسية ومطامع إقليمية وفساد محلي، يعني فيما يعنيه دخول المنطقة برمتها نفقًا شديد الظلمة، لن يخرج منه أحد سالمًا.
قد تكون هذه اللحظة الأليمة النكبة، هي لحظة النهوض لتطهير لبنان من الممارسات الشاذة، وحصر الولاء في الوطن، وفتح العقول والصدور كما فُتحت بالأمس البيوت للآخر المختلف، لا على أساس طائفي أو حزبي أو الولاء لهذا وذاك، بل على أساس تضامن الشعب الواحد، الذي يعي جلُّ أفراده في دواخلهم أن كل الاعتبارات الجانبية تسقط في لحظة الحقيقة.
بيروت اليوم جريحة، بل تكاد تُنازع. لا تدَعوا بيروت وحيدة! ففي بيروت التي هي ملك اللبنانيين/ات جميعًا دون غيرهم، شيء كثير منهم ومنا جميعًا. كلُّ من مر بها وعاش بين أبنائها بهذا المعنى، أيْ بمعنى وجود جزء من قلوبنا جميعًا في هذه المدينة وهذا البلد، يقول: بيروت لا تموت.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.