لقد أخطأ ماكرون، بالمعايير السياسية للعَلمانية، في قوله في خطابه عن “النضال في وجه الحركات الانفصالية”، بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر 2020: “يعيش الإسلام اليوم أزمة في جميع أنحاء العالم”. لم يأتِ خطؤه بالضرورة على مستوى التوصيف، حيث حدّد أن هذه الأزمة مرتبطة بالتوتّر الناتج من متطرّفين، ومن مشاريعهم الدينية‑السياسية وأحلامهم الجهادية، معتبرًا أنّ مجموعاتٍ مثل الوهابيين والسلفيين والإخوان المسلمين موجودة في فرنسا، جنحت نحو الراديكالية وأصبحت تَحمل مشاريع سياسية انفصالية ومناهِضة لحقوق الإنسان. الكثير من علماء الإسلام والأكاديميين يتحدثون بهذه الأمور، وبعض المؤسسات السياسية والدينية الإسلامية تضع إستراتيجيات لمناهَضة هذه المجموعات. لكن، وإن كانت من صلب مهام رئيس الجمهورية الفرنسية حماية المواطنين وحقوقهم ووحدتهم الوطنية، مع ما يقتضي ذلك من مواجهة علنية وجريئة لتيارات تُهدد ذلك؛ ليس للرئيس -بحكم النظام الفرنسي العَلماني- أن يحدّد علاقة هذه الإشكالية بالدين الإسلامي، وأثرِه في المنظومة الدينية ككل.
من الطبيعي أن تصطدم منظومات دينية مختلفة بثقافة الدولة ومنظومتها القيمية. يأتي هنا دور المجتمع والقوانين والمؤسسات العامة الثقافية والتربوية، ليُعزّز في نفوس المواطنين والمواطنات قيم الحياة العامة وضمان حرياتهم الفردية، في حين يبقى على هؤلاء المواءَمة أو الاختيار بينها وبين قيَمهم الخاصة الدينية أو العائلية أو غيرها. لذلك، يحقّ للدولة شجْب -لا بل مناهضة- منظوماتٍ قيمية دينية تتعارض مع مرجعياتها الحقوقية، وعلى رأسها منظومة حقوق الإنسان. ولكن، ليس على الدولة أن تتدخّل في شؤون الأديان الداخلية لتُحدّد أوضاعها وتُوجّه أدبياتها، لأن في ذلك تعارضًا مع حرية الدين والمعتقد. فيحقّ لفرنسا مثلًا منعُ تعدُّدِ الزوجات وكلِّ أشكال التمييز تجاه المرأة، والترويجُ لثقافة مساواة جندرية حقيقية. لكن، ليس من شأن الدولة أن تتدخّل في تعاليم الإسلام أو المسيحية أو غيرهما من الأديان في هذا المجال. من هنا، لم يُخطئ ماكرون في إعلانه مناهضةَ الدولة للحركات الإسلاموية الراديكالية، لكنه أخطأ عندما ربط ذلك بما أسماه “الأزمة” التي يُعانيها الإسلام.
بعد الاغتيال الإرهابي والوحشي، الذي تعرّض له المدرّس صاموئيل باتي في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2020، على يد شاب يبدو أنّه قام بجريمته بدافع ما عدّه دفاعًا عن الإسلام، خسر ماكرون في خطابه التأبيني للمدرّس في 21 تشرين الأول/أكتوبر في السوربون، فرصة جمع الفرنسيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية ومعتقداتهم ومواقفهم، كتلةً واحدة في مواجهة العنف والإرهاب. لقد أساء التقدير في تحديد الأولويات، ففاتَه أن الخطر الأكبر والداهم هو الإرهاب، الذي يقتضي حشد الفرنسيين صفًّا واحدًا في مواجهته، وصوَّب موقفه بدل ذلك نحو الدفاع المُحقّ عن حرية التعبير. لهذا، بدل أن تُعزّز هذه اللحظة المأساوية الوحدة الوطنية، وتؤكّد مكانة المسلمين في الجماعة الوطنية، وهم المصابون مرّتين من هذا الإرهاب في وطنهم وفي دينهم، عمَّق موقف ماكرون لدى الكثير من المسلمين الشعور بالوصمة والمظلومية، وزاد من منسوب القلق لدى قسم آخر من المواطنين بشأن حياتهم وقيَمهم. مُحقٌّ ماكرون في الدفاع عن الحرية، التي تُشكّل مع المساواة والأخوَّة أعمدة الجمهورية الثلاثة. لكن، لربما كان ذلك أقوى وأنصع وأكثر إقناعًا، لو جاء في سياق توطيد أواصر الأخوّة الوطنية بين جميع الفرنسيين.
في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2020، ضرب الإرهاب مجدّدًا في فرنسا، فقام شاب بقطع رؤوس مصلّين أبرياء في كنيسة مدينة نيس، وهو يصرخ “اللهُ أكبر”. وقعت هذه الجريمة البشعة في سياق حملةٍ مناهِضة لفرنسا، أخذت أبعادًا سياسية دولية، وشاركت فيها مرجعيات إسلامية دينية كبرى، وأصوات إعلامية، أخذ بعضها أشكالًا خطرة من خطابات الكراهية وتبرير الاعتداءات والتحريض على العنف. دلّت هذه المواقف الإسلامية على منحًى تصادميٍّ خطير، جعلها تُهمل مواجهة الإرهاب المتلبِّس ثوب الإسلام، للتركيز على مناهَضة مفهوم حرية التعبير في فرنسا، الذي لا يحمي الإسلام وسائر الأديان من الازدراء.
أخطأ ماكرون ثالثةً، حين واجه هذه الجريمة الإرهابية بإعلانه من نيس: “في فرنسا لا يوجد إلّا جماعة واحدة، وهي الجماعة الوطنية”. لقد جاءت هذه الدعوة إلى الوحدة متأخرة وملتبسة في مضمونها، في لحظة كان فيها الكاثوليك يتساءلون مصدومين، هل أصبحوا في مواجهة اضطهاد يستهدفهم بسبب خصوصيتهم الدينية! وكان المسلمون يتحمّلون أبشع أشكال التشويه لدينهم من أقران لهم. لم تكن هذه اللحظة لترويج الانصهار الوطني -كما حاول ماكرون أن يفعل-، بل للاعتراف بخصوصية كل جماعة، وبحقّها في ممارسة شعائرها والتعبير عن ذاتها بكل حرية وأمان، والسعي لمواجهة العنف وغسل آثاره عبر التضامن الروحي العابر للأديان، كما فعل العديد من المسلمين والمسيحيين معًا، بعد هذه الحادثة.
حتى عندما نضع جانبًا السياق السياسي والانتخابي الداخلي في فرنسا، والتنافس الإقليمي والدولي، وأثرهما في هذه المواقف، يبقى أنّه بين ماكرون -بوصفه رأسًا للسلطة السياسية الفرنسية- والإسلام على تنوُّع مكوّناته، أكثر من سوء تفاهم. توجد بينهما أزمة حقيقية بأوجهٍ ثلاثة.
أوّلًا، إنّ وجود تيارات إسلاموية راديكالية في فرنسا، لا تعترف بالمواطنة وحقوق الإنسان إلّا “تقيّةً” إنِ اقتضى الأمر، يُشكّل تحدّيًا للمسلمين الذين يرفضون هذا التوجُّه، وللجمهورية الفرنسية على حدٍّ سواء. لقد استيقظت الدولة الفرنسية مصدومة، لتجد أن هذه التيارات أصبحت واسعة ومتشعّبة الانتشار على أراضيها، وأنها تستند إلى أدبيّات إسلامية تقليدية لترويج مشاريعها الانعزالية. فالمواجهة لا تزال في بداياتها، وتقتضي تصويب إستراتيجياتها وإعادة تحديد أدواتها.
ثانيًا، إنّ عجز السلطة السياسية الفرنسية عن التعامل الإيجابي مع التنوّع، كلجوء ماكرون إلى منطق الانصهار، واعتبار بعض وزراء حكومته الخصوصيات الغذائية لدى المسلمين والجماعات الدينية الأخرى سببًا للانعزالية، دلّ على أزمة حقيقية في مفهوم العَلمانية والمواطنة الفرنسيّة. إنّ هذه المسألة تحتاج إلى التراجع عن المواقف الراديكالية، أعَلمانيّةً كانت أم دينية، لفتح حوار هادئ وبنّاء على المستويات الاجتماعية والفكرية والسياسية، للتوصّل إلى تفاهم حول تعريف متجدّد للعَلمانية، يُؤسّس للمواطنة الحاضنة للتنوّع في المجتمع الفرنسي.
ثالثًا، إن بعض المسلمين يبذلون جهدًا هائلًا لبلوَرة خطاب إسلامي اجتماعي جديد، ينسجم مع مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان، في حين الأدبيات الدينية السائدة هي في معظمها من حقبة ما قبل الحداثة، وتتعارض أحيانًا مع هذه المفاهيم. على السلطات الفرنسيّة أن تدرك ذلك وتُرافق هذا الجهد الضروري، دون أن تتدخّل فيه، لكي ينتقل الفكر الإسلامي الحديث من دوائر النخب الأكاديمية، إلى حياة المسلمين اليوميّة، فتتصالح في ذواتهم الخلفية الدينية مع الممارسة الوطنية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.