الرجوع

تأملات بعد غزّة: كيف نستعيد حقوق الإنسان؟

الأربعاء

م ٢٠٢٥/٠١/٢٢ |

هـ ١٤٤٦/٠٧/٢٣

  • منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقِسم كبير من الشعوب العربية المتضامنة مع القضية الفلسطينية فقَدَ إيمانه بمنظومة حقوق الإنسان، لأن الدول المروِّجة لتلك الحقوق ظهرت بشكل علني، وكأنها لا تعيرها اهتمامًا، ولا تأخذ بالمبادئ التي بُنيت عليها هذه الحقوق، وعلى رأسها قيمة الحياة البشرية المتساوية. وكانَ قِسم من الشعوب العربية كشف النفاق قبل ذلك، عندما رأى كيف تتعامل هذه الدول مع اللاجئين، فتكيل بمكيالَيْن تجاه كُلٍّ من اللاجئ الأوروبي واللاجئ السوري مثلًا.
  • وبعد غزّة، والتخلي شِبْه الكلّي عن حقوق الإنسان مِن قِبل معظم الحكومات الغربية، وجَد العاملون والعاملات في حقوق الإنسان أنفسهم أمام معضلة: "هل عمَلُنا كلُّه هباء؟ أم هل حقوق الإنسان حقّةٌ بِغضِّ النظر عن نفاق مَن يدعو إليها؟".
  • فإنْ عُدنا إلى أساس شرعة حقوق الإنسان، نرى أن مَن صاغها لبنانيٌّ وصيني وأميركيّة، وأنها ليست مبنيّة على فكر غربي فقط، بل على تراكُم التجربة الإنسانية، وعلى مبادئ تدعو إليها الدياناتُ الكبرى وأسمى الفلسفات. فنجدها في أدبيات ما قبل الشرعة بعقود، حتى بِقُرُون.
  • أودّ هنا ذِكر مثالَيْن على ذلك: الأول هو الأمير عبد القادر الجزائري (1807-1883)، الراسخ في ثقافته الإسلامية والصوفيّة، والملقَّب بأمير المقاومين ضد الفرنسيين في الجزائر. فبعد إبعاده عن الجزائر من قِبل المستعمر الفرنسي، سكن دمشق، ولعب دورًا مهمًّا فيها عام 1860، إذ أنقذ ما يزيد عن عشرة آلاف مسيحيٍّ ومسيحيّة من هجومٍ طائفيٍّ عليهم أَوْدَى بِـثلاثة آلاف منهم. وبعد شُكر أُسْقُف الجزائر المونسنيور بافي وتهنئته له، أجاب عبد القادر في رسالة للأسقف: "ما فعلناه مِن بِرٍّ مع النصارى، كان علينا أن نفعله إخلاصًا لديننا واحترامًا لحقوق الإنسانية، لأن الخَلق كلهم عيال الله، وأَحَبُّهم إليه أنفعُهُم لعياله".
  • لقد تَكلَّم الأمير عبد القادر عن حقوق الإنسانيّة قبل تسعين سنة مِن صياغة شِرعة حقوق الإنسان، وناصَرَ الحريّةَ الدينية أكثرَ من مئة عام قبل أن تُذكَر في المواثيق الدوليّة. ففي الحرب ضد الجيش الاستعماري الفرنسي التي قادها في الجزائر، أدهَش الفرنسيين بمعاملته مع السجناء، حيث كتب عبد القادر شِرعة السجين، التي قال فيها: "إنَّ كلَّ عربي لديه سجين فرنسي أو مسيحي، مسؤولٌ عن كيفية معاملته، وإنه ممنوعٌ التكلم مع السجناء لتغيير دينهم، وإنَّ من يفعل ذلك سيَلقى عقابًا". ثم إنه طالَبَ السلطات الفرنسيّة بإرسال كاهن مسيحي يهتم بالجانب الروحي للسجناء، ويسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينيّة. 
  • المثال الثاني هو الفيلسوف الهولندي اليهودي الأصل باروخ سبينوزا (1632-1677)، الذي جرى اضطهاده من قِبل أبناء دينه، مِن جرّاء تفسيراته المختلفة عن الأرثوذكسية اليهوديّة، ونقْدِه للتفسير الديني السائد، وقراءته النقديّة للتوراة. ففي عام 1656، بعد نجاته من محاولة اغتياله، أُوقِعَ عليه "الحِرْم"؛ أي الإبعاد عن الجماعة واعتباره مارقًا من الدين، مع اللعن والمنع التامِّ لأبناء دينه من التحدث إليه، أو قراءة كتبه. وكان قد شهد قبل تسع سنوات إقامةَ حدّ الجلد على صديق له، لتفسيراته الدينية المخالفة للجماعة، حيث انتحر هذا الصديق على إثر هذه الحادثة؛ ما جعله مدافعًا عن حريّة التعبير وحريّة الدين والمعتقد، قبْل ثلاثة قرون من اعتماد الشِّرعة العالمية لحقوق الإنسان. 
  • يقول في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة"، الذي أصدره عام 1670: "لمَّا كان الناس لا يملكون جميعًا نفس نوع الفكر، ولمَّا كان بعضهم يعتنقون معتقدات مُعيَّنة، وآخرون يعتنقون معتقدات مختلفة تمامًا، ولمَّا كان بعضهم يحترمون ما يدفع جيرانهم إلى الضحك، فإن الاستنتاج الآتي يبدو لي واجبًا: يجب على كل شخص أن يحافظ على حرية حكمته وقدرته على تفسير الإيمان كما يفهمه". ويضيف: "كل إنسان يتمتع بالاستقلال الكامل في مجال الفكر والمعتقد. فلا يمكنه -حتى بِرِضًا تامّ- أن يتنازل عن هذا الحق الفردي". وفي خاتمة الكتاب يلخّص قائلًا: "من المستحيل حرمان الأفراد حرية التعبير عما يفكّرون فيه"، و"التمتع الفردي بحرية الحُكم (التي لا تُهدد السلامَ ولا أيَّ إيمان حقيقي داخل المجتمع العامّ، ولا سيادة السلطة)، هو أيضًا أمرٌ ضروري للحفاظ على السلام والإيمان والحق السياسي السيادي".
  • ذانِكَ المثالان كانَا لرجلَيْن، أوصلَتْهما عمق التجربة الإنسانية الروحيّة والفلسفيّة، وتجربة الواقع الصعبة، والرقيّ الفكري والإنساني، إلى مبادئ أساسية من مبادئ حقوق الإنسان. فَلْنَستَعِدْها من عمق هذه التجربة، بِغضِّ النظر عن الأجندات التي روّجت لها. 
 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2025
تصميم وتطوير Born Interactive
معلومات ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين التنقل في الموقع وتحليل استخدام الموقع والمساعدة في جهود التسويق. تحقق من سياسة ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا للحصول على التفاصيل.

إعدادات الخصوصية

حدد ملفات تعريف الارتباط التي تريد السماح بها. يمكنك تغيير هذه الإعدادات في أي وقت. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي هذا إلى عدم توفر بعض الوظائف. للحصول على معلومات حول حذف ملفات تعريف الارتباط، يرجى الرجوع إلى وظيفة المساعدة في المتصفح الخاص بك.
تعرف على المزيد حول ملفات تعريف الارتباط التي نستخدمها.

ضروري
وظائف
تحليلات
تسويق

هذا الموقع سوف:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • تذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • مح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

هذا الموقع الإلكتروني لن:

  • يتذكر إعداد إذن ملفات تعريف الارتباط
  • يسمح بملفات تعريف الارتباط للجلسة
  • يجمع المعلومات التي تدخلها في نماذج الاتصال، والنشرة الإخبارية والنماذج الأخرى عبر جميع الصفحات
  • يساعد على منع هجمات التزوير (CSRF) عبر الموقع
  • يحافظ على حالة جلسة الزائر عبر طلبات الصفحة
  • يتذكر إعدادات التخصيص
  • يتذكر الإعدادات المحددة
  • يتتبع الصفحات التي قمت بزيارتها والتفاعل الذي اتخذته
  • يتتبع حول موقعك ومنطقتك على أساس رقم IP الخاص بك
  • يتتبع الوقت الذي تقضيه في كل صفحة
  • يزيد جودة بيانات وظائف الإحصاء
  • يستخدم المعلومات للإعلان المخصص مع أطراف ثالثة
  • يسمح لك بالاتصال بالمواقع الاجتماعية
  • يحدد الجهاز الذي تستخدمه
  • يجمع معلومات التعريف الشخصية مثل الاسم والموقع

حفظ وإغلاق