- خلال دراستي الجامعية في مجال التاريخ، كنتُ مهتمّة بالشخصيات النسائيّة في القرون الأولى للإسلام. كنتُ أبحث عن نماذج تلهمني بقِيَمها أو بشجاعتها، فكان هناك نساء محاربات، وأخريات برزت شجاعتهن في مواقفهن أمام القادة السياسيين، وغيرهن ممن وُصفن بشجاعتهن في وعظ الرجال بالسير على طريق الله. أيضًا أدهشتني مواقف نساء من استشهاد أبنائهن، أو أحبائهن.
- على سبيل المثال: السُّمَيراء بنت قيس، حين أتاها خبر استشهاد ابنَيْها في معركة أُحُد، سألَت: "ما حال النبي؟" فقيل لها إنه بخير. فقالت: "كلُّ مصيبة بَعْدك يا رسول الله جلَلٌ." والخنساء، حين أتاها خبر استشهاد أبنائها الأربعة في معركة القادسية، قالت: "الحمد لله الذي شرَّفني باستشهادهم، وإني لأرجو أن يجمعني بهم في مستقرِّ رحمته."
- تذكرتُ هؤلاء النسوة أخيرًا، عندما شاهدتُ ردود أفعال بعض الأمهات على استشهاد أبنائهن في لبنان أو فلسطين، سواءٌ شهداءَ عُزَّلًا كانوا أو مقاتلين نالوا الشهادة.
- ولا يتعلق الأمر هنا بالشهادة فقط، بل أيضًا بمن يشهد على تلك الشهادة؛ بمعنى آخر: "الشاهد على الشهادة". إنه يتعلق بكيفيّة فهم قيمة الحياة والموت، حتى وإن كان القلب محطمًا بسبب الفقدان.
- الشهيد هو من يكون مستعدًّا للتضحية بحياته في سبيل الله، أو في نُصرة قضية أو مبدأ. أما الشاهد على الشهادة، فهو الذي يمنح هذه التضحية معنًى، أو لا يمنحها.
- في العالم الغربي ما بعد الحداثة، شهدنا خلال العقود الأخيرة -وبشكل متزايد- رفضًا لفكرة الموت من أجل هدفٍ سامٍ، واستبدالًا لها بالسعي نحو إطالة الحياة، سواءٌ ذات معنى كانت أم لا. امتدت هذه الفكرة إلى لبنان: ففي عام 2005، بعد انقسام لبنان إلى معسكرَيْن سياسيَّيْن، أطلَق أحد الطرفين حملة كاملة حول "ثقافة الحياة" و"ثقافة الموت"، متهِمًا الطرف الآخر بالسعي إلى الموت، في حين كان يدعو هو إلى الحياة والثقافة والازدهار.
- برأيي، كان هناك شيء غير صحي في رفض الاعتراف بقيمة تضحية الآخر، أو في عدم رؤية أن ذلك الآخَر يحب الحياة أيضًا، ولكنه يريدها حياةً كريمة، حياةً ذات معنى. صحيح أنّ بعضًا مِمَّن في "معسكر الحياة" فهموا أن المبادئ يجري التلاعب بها، وأنَّ وراء الأيديولوجيات المهدويّة وغيرها، طموحاتٌ إلى السلطة السياسية والاقتصادية، ومِن ثَمَّ استنتجوا أن لا شيء ولا أحد يستحق أن يُضحَّى بالحياة من أجله. وربما لهذا السبب، لم تصل انتفاضة أكتوبر 2019 إلى ثورة حقيقية.
- مع ذلك، يجب ألَّا نقلل من قيمة فِعل مَن يموت من أجل مُثُل عليا للتحرّر، كانت دوافِعُه سواءٌ أيديولوجيا دينيةً ، أم لا.
- فمَوتٌ ذو معنى، سيظل دائمًا برأيي أفْضَل ألْفَ مرة من حياة دون معنى.
- ولا يظنّن أحدهم أن قلوب عوائل من استشهد لا تنفطر أو أنّ عبارات مثل "الشهيد السعيد" أو هنيئًا له الشهادة" أو التبريكات لأسر الشهداء تُنمي عن عدم اكثراث لمعنى الحياة. فالحزن على الموت واحد عند جميع البشر، ولكنه في هذه الحالة مصاحَب بوقفة عزّ أمام من يحاول أن يسلب الحياة والأرض والكرامة، بالشجاعة أمام الجبروت، وبإيمان أن هناك قيم أكبر من الحياة الفردية. تحيّة لجميع الشهداء والشهيداء، الطوعيين أو المرغمين، وتحيّة لكل من أعطى لشهادتهم معنى.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.
