"ترامواي" التنوّع
مساء الجمعة، بداية عطلة نهاية الأسبوع في فرنسا. نحن في "الترامواي" المجّاني لمن هم دون الـ١٨ سنة وما فوق الـ٦٥ سنة.
ساعة ازدحام ركاب. منهم عائد إلى بيته، أو خارج منه. بعضهم بدأ سهرته باكرًا وفاحت رائحة الكحول منه، وبعضهم لبس ثياب السهرة التي تغطّي بالكاد جسده، وبعضهم ارتدى ثيابًا أنيقة وفاحت منه "الشياكة" والجمال والرقيّ، وبعضهم حمل كيس الخضار والفاكهة متعبًا حالمًا براحة البيت، وبعضهم لبس زيّ موطنه الأم أو قبيلته الإفريقية الزاهية، وبعضهم ارتدى لباسه المحافظ، أو الحجاب بكل ألوانه وأشكاله وطرائق لفِّه وربطه من كل أقطاب العالم، ومنهم من حمل طفله، ومنهم من عانق حبيبه…
لم يقف شرطيّ الأخلاق بيننا، ولم يوزّع أهلَ الجنّة وأهل النار رجُلُ دين، ولم يقف مُعلّم حقّ وباطل وحلال وحرام ليصرخ بالرُّكّاب. لم يتململ أحد من سواه المختلف عنه. كلٌّ منّا عرف ما يوافق عليه وما لا يوافق عليه، ما يعجبه وما لا يعجبه، وكلٌّ منّا اهتمَّ بشؤون نفسه. نزل ناس وصعد آخرون، وسُمع صوت رَفْع أَذان صلاة المساء من جامع ملاصق، وسُمع أنغام موسيقى صاخبة، وضحكات بعضهم كانت عالية، وأخرى كانت خجولة. صمت بعضهم، وتحدّث بعضهم الآخر، وسارت الحياة كما يسير الترامواي على سكّة واضحة، بسيطة.
وصلْنا إلى الساحة الكبرى في المدينة، وإذ بها تعجّ بكِبارها وصغارها. تفوح من المقاهي روائح المطبخ الفرنسي والأميركيّ والشرقيّ والآسيوي. الفلافل بقرب السوشي والبيتزا، الأطفال يركضون فرحين، بعضهم يتمشَّى مع كلبه المطيع، وبعضهم يتنزَّه مستخدمًا "سكوتر" كهربائيًّا، أو درّاجة هوائيّة، وسط ساحة تعبق بالتاريخ وقصص كلّ مَن مرّ بها أو استقرَّ فيها…
ليست هي المرة الأولى التي أزور فيها مُدُنًا في الغرب، ولا المرة الأولى التي أرى فيها التنوّع بأبهى صوره في الشوارع وفي النقل المشترك. لكنّها المرّة الأولى التي أزور فيها المدينة من خلال عَينَي ابنتِي، التي انتقلت إلى جنوب فرنسا للدراسة الجامعيّة، وسط أزمة وجود وطننا الحالية. رأيتُ فرحتها عندما وصلَت إلى مدخل الجامعة، وشاهَدَت ملصَقات تقول: "لا مكان للعنصرية والفاشيَّة والجندرية بعد هذا الباب". راحت تُصوّرها وتصرخ قائلة: "هذه جامعتي التي أُحبّ، حتى قبل بدء الدروس". هي المرّة الأولى التي أرى فيها ابنتي في مدينة غريبة عنها، على بعد آلاف الأميال من غرفتها ووطنها، تتماهى مع تنوّعها بسرعة البرق.
هنا التقينا بـ "مومو" أو محمد (من أصول مغربية)، الذي ساعدَنا مرّتَين. وهنا التقينا ب"ماري" التي تركت عملها في "السوبرماركت"، وقد اتصلَت بـ "مومو" عدّة مرّات وتحقَّقَت من أن أمورنا بخير -دون مِنّة-. وهنا التقينا بـ "روك" الشاب الخدوم، الذي -رغم تَسرُّب مياه الشتاء إلى طابق المصرف الأرضيّ- استمرّ في خدمتنا والابتسامة تعلو وجهه. فهُنا سيسهر على أمن ابنتي وكل الطلاب القاطنين في الدار. أمّا "جان فيليب" الخمسينيّ مع كلبه المُرعب، فسيجيب عن كلّ طارئ، ومعه شيماء الجزائريّة الأصل والدائمة الابتسامة واللطف. أيضًا هنا داعبنا "بنتو" الطفلة التوغوليّة مع والدتها…
هي مساحة جغرافيّة احتضنَت "الغريب" بخدماتها وإمكانياتها، وأسْمَته "مُواطنًا". وكلّ ما تطلبه منه هو التماهي مع هذا المجتمع، واحترام قيمه وقوانينه وحريّته. فما كان من هذا المُواطن(ة) إلّا أن قابَل الإحسان بإحسانَين، فساهم في بناء اقتصادها، وقام بدفع ضرائبه، وتَعلَّم وأعطى قدراته، وبنى حياته فيها.
لستُ في وارد اعتبار "الغرب" خاليًا من العنصريّة أو الفوقيّة أو الطبقيّة، أو من إشكاليات في القوانين التعسفية أحيانًا بحق بعضهم، ولا أسعى لتسويق صورة مثاليّة عنه، أو لتبييض تاريخه. فالغرب جزء من هذا العالم بإشكالياته العديدة. لكن، لا بدّ من التنويه بما يميّز هذا الغربَ الأوروبي، وما يَجذب إليه شعوبَ العالم المتعبة، الفقيرة، المنبوذة، المدمّرة مِن جرَّاء حروب واضطهاد وتكفير وظلم ويأس. وهذه الميزة ليست التاريخ ولا السياسة ولا المال فقط؛ إنها التعددية والتنوّع تحت سقف القوانين. إنها فرصة العيش بسلام، والعمل، وإنشاء عائلة، والاستمتاع، والتعلّم، وتأمين الصحة والشيخوخة، دون الخوف من أحد، لأن سقف الجميع هو القانون والدستور. هي مساحة تسَعُ الجميع، رغم كلّ المآخذ والمشاكل، وتفتح آفاق الإمكانيات. هنا العلم حقّ، والحريّة الشخصية حق، والتنوّع حق؛ واحترام الآخر واجب.
هنا، المساحة العامة تستوعب المساحات الخاصة. نعم، قد تبتلع بعضَنا حينًا، أو تَظلم بعضَنا أحيانًا، لكن "ترامواي" الحياة اليوميّة فيها منتظم، دقيق، وسهل. يمكننا ركوبه أو السير على أقدامنا، ويمكننا قيادة سيارتنا الفخمة أو الباص. فالخيار لنا، والنتائج علينا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.