إن ما يدور اليوم من أحداث، من الإرهاب الدموي إلى الإسلاموفوبيا الهاذية (غير المعقولة)، يستدعي منَّا الوقوف على فهم خطورة هذه الظواهر، ومحاولة التوقِّي من تبعاتها التي تهدد التعايش المشترك. ولعله من المفيد أن نستحضر الفلسفات، التي عالجت علاقة الأنا بالآخر وقضية الغيرية عمومًا. وفي هذا الإطار نخص بالذكر فلسفة “إيمانويل ليفيناس”، الذي عالج مفهوم الاختلاف، وأكد أن الآخر ليس مجرد مرآة عاكسة للأنا فقط، بل إنه يجسد كسْر وَهْم الاكتفاء بالذات. فالأنا حسب “ليفيناس” هي حارسة للآخر، الذي هو مصدر الأخلاق والمعنى. ومع أن الآخر منفصل عن عالمنا وله كيانه الخاص، فإنه من واجبنا احتضانه وضيافته -على حد تعبيره-. وفي نهاية المطاف يعتبر ليفيناس أن الأنا هو رهينة الآخر، وهذا ما يؤسس للحياة الأخلاقية للإنسان في علاقته بغيره.
جسدت هجرة المسلمين إلى أوروبا تحدِّيًا لقضية الغيرية، وإشكالية علاقة الأنا بالآخر. فالحضور الإسلامي في أوروبا يشكل اختبارًا لقياس مدى قدرة الغرب على قبول الإسلام، الذي يجسد في مِخْيالهم “المُغايِرَ” بامتياز، الذي فرضته التعددية الدينية الجديدة. وكذلك يشكل في نفس الوقت اختبارًا للمسلمين، الذين يعيشون أول مرة في تاريخهم منزلة الأقلية الدينية، في ظل دول حديثة ومدنية.
لقد أجَّجت الأحداث الشنيعة الأخيرة، أيِ اغتيالُ المدرِّس “صموئيل باتي” ونحرُ الأبرياء في مدينة نيس، الأحقادَ والعداوات الدفينة، وغذَّت تصاعد الإسلاموفوبيا باعتبارها معاداة للإسلام السياسي، وتَوجُّسًا من المسلمين. وهو ما يجعلنا نسعى إلى فهم المشكلة ومحاولة إيجاد آفاق، عسانا نتقي شبح صراع الحضارات وويلات الحروب الدينية والطائفية. فمن جهة، نحن أمام مجموعات دينية وإثنية ظلت عصيَّة على الاندماج، وعاجزة عن التوافق مع مؤسسات المجتمع المضيف وقوانينه وضوابطه.
إن الدراسة المرجعية حول العنصرية وكراهية الآخر والهوية الاجتماعية، التي قام بها العالِمان “لينج” و”وستين”، قد تساعدنا على فهم هذه الظاهرة. فقد عَزَا الباحثان صعوبات الاندماج إلى ثلاثة عوامل رئيسية، وهي:
– التوزيع غير العادل للثروات و”دواليب السلطة” في المجتمع.
– محدودية العلاقات والتواصل بين المجموعات الإثنية والدينية.
– اختلالات سيكولوجية تعود إلى مشاكل في تقدير الذات والرضى عن النفس عند أغلبية المهاجرين.
إضافة إلى هذه العوامل، نحن نَعرف أن الجاليات المسلمة في أوروبا عاشت تحولات هيكلية متسلسلة، انتقلت بها من الاقتصادي الفج إلى الأنثروبولوجي المعقد، وإلى السياسي المركب. وبالفعل، فالهجرة تطورت من هجرة أيادٍ عاملة طيِّعة إلى هجرة عائلات تَحمل ذاكرة جماعية، صقلتها عادات البلد الأصلي وطقوسه، فأنتجت مجتمعات مصغرة، تَحكمها رموز ومعايير خاصة بها ومتصادمة مع قيم البلد المضيف. وهنا، يمكننا أن نتفهم جدية مخاوف مجتمعات علمانية مما تسمِّيه بـ”أسلمة أوروبا”، وطغيان الأقليات المسلمة التي تهدد مكتسباتها التاريخية. فهذه المجتمعات لم تتجاوز الحروب الطائفية، ولم تتخلص من تغوُّل الكنيسة وبطش محاكم التفتيش، إلا بِفضل العلمانية، أيْ فصل الدين عن الدولة وعن البحث العلمي، وتكريس حرية المعتقد.
لعل ما نمر به اليوم من إرهاب وإسلاموفوبيا، يَفتح لنا مجالًا ممزَّقًا بين المحنة والفرص. فالمحنة تتمثل بما تعانيه الجاليات المسلمة من وصم وعدوانية في بعض الحالات. أما الفرص، فتتمثل قبل كل شيء بإعادة التفكير في هوية إسلامية جديدة، تَخرج من النطاق المحلي والنرجسي إلى سعة النطاق الإنساني والكوني. هي أيضًا فرصة لصياغة عقد اجتماعي جديد، يتصالح فيه الإسلام مع العالم. وهذا يعني احترام غيرية الآخر والقطع مع المسلَّمات التقليدية، التي تُقدِّمنا على أننا أوصياء على الجنس البشري.
الإسلاموفوبيا هي أيضًا فرصة لنقد الذات. فمِن الناحية الأخلاقية، لنا أن نُسائل أنفسنا عن وضع الأقليات الإثنية والدينية في “ديار الإسلام”. فرغم الدساتير الحديثة، لا تزال مظاهر التمييز العنصري والتصورات السلبية متغلغِلة في المِخيال الشعبي، وفي اللاوعي الجمعي حول المختلف. فالعديد من البلدان تمنع مواطنيها من الترشح للمناصب العليا، ومن الانخراط في الجيش والأمن، ومن الزواج بسبب معتقداتهم الدينية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.