"لكل شخص حقُّ التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون أي تَدخُّل، وفي استقاء الأنباء والأفكار، وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية"، هذا هو نص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948. وهو النظام الدولي المأمول الوصول إليه، بزوال شبح الخوف من التعبير. صفته الأساسية حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني العقلاني، ومستنده إلى الشرعية والعدالة.
باعتبار أننا بشر من منطقة الشرق الأوسط الملتهبة في معظم الأوقات، وباعتباري مواطنة أردنية، فإن عقلي مثقل مثل الكثيرين/ات بذاكرة باتت أكثر عجزًا عن احتمال أخبار العنف والظلم. كنا نتمنى ألا تتراجع مكانة الدولة وهي تحتفل بمئويتها الأولى بحسب مؤشر الحريات، ولا يخسر أي إنسان أمْنَه أو حريته.
الحكومة الأردنية في صميم المشكلة، والوسط الإعلامي في ذروة الانقسام، والمؤثرات الثقافية والذهنية في أفراد المجتمع كثيرة، فضلًا عن قانون الجرائم الإلكترونية الذي أُقرَّ عام 2015، والمتخصص بجرائم القذف والقدح التي تُرتكب عن طريق الإنترنت. ما رآه بعضهم أداة رقابية وقائية، رآه بعضهم الآخر قانونًا يكمم الأفواه، وأنه ألغى -فور إقراره- تطبيق قانون المطبوعات والنشر، الذي يحظر توقيف الصحافيين/ات بسبب حرية الرأي والتعبير، مع أن المادة 128 من الدستور الأردني، تنص على أنه لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر على جوهر الحقوق أو تمس أساسياتها. يضاف إلى هذا كله الدور السلطوي للضبط والرقابة، والذي مارسته الحكومة خلال جائحة كورونا من خلال أوامر الدفاع، لإنقاذ المجتمع خلال مرحلة الوباء، ثم تَحوَّل فيما بعد هذا الدور من استثناء إلى حالة دائمة فيما يبدو.
ليست المعضلة في أوامر الدفاع فقط، أو في أن قانون الجرائم الإلكترونية يعاني ثغرات عديدة، لكن المعضلة الكبرى في تعدد الثغرات في علاقة الحكومة بوسائل الإعلام من جهة، وبالمواطنين/ات من جهة أخرى؛ ما انعكس سلبًا على علاقة المواطنين بعضهم ببعض. والحقيقة، أن من أهم الثغرات فقدان الثقة والرضوخ المبني على الخوف. أيضًا من الثغرات البارزة التي تُميز المشهد الحالي، التناحر في الحوار بين الأطراف، والذي قد يصل حدود القطيعة والعبث بمصائر أفراد ومؤسسات. وهذه الثغرة الأخيرة لم تولد فجأة أو من فراغ؛ إذ هي محصلة لمجموعة من الأسباب التي سبقتها، حيث أصبحنا نواجه حالة مركبة ومربكة في الوقت نفسه. فلم يعد الأفراد -سواءٌ مواطنين/ات عاديين كانوا أم سياسيين أم صحافيين-، قادرين على التمييز بوضوح كاف بين حرية التعبير وانتهاك حرية الآخر، أو بين النقد واغتيال الشخصية، أو بين الأطراف التي تقف مع الحق والتي تقف ضده. ذلك كله أدى إلى حالة من المرارة والضياع والحيرة، ترافقت مع إلقاء المسؤولية على الاستخدام الخاطئ لقانون الجرائم الإلكترونية، وشخصنة الكلام موضع الجدل.
في حادثة أثارت الرأي العام أخيرًا، أوقفت السلطاتُ الصحافيةَ الأردنية "تغريد الرشق" المقيمة في أميركا، فور وصولها إلى مطار الملكة علياء. وقد حدث ذلك بعدما سجَّل صحافي آخر شكوى ضدها، على إثر تغريدة لها اعتبرها الصحافي مهينة بحقه. ولم تمض أيام على حادثة توقيف "الرشق"، حتى ضج الوسط الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي بحادثة توقيف مماثلة للصحافي "داود كتاب". أما الجديد في توقيف "الرشق" و"كتاب"، فهو أن كِلا الصحافيَّيْن لم يبلَّغ مقدَّمًا بأية دعوى قضائية، ولم يكن لديه أية خلفية عن الشكاوى المقدمة ضده.
ما حدث مع الرشق وكتاب، امتداد ثقيل لِما شهده العام المنصرم وما سبقه من أعوام، من حوادث توقيف وحبس للصحافيين/ات والكُتَّاب والنخب الثقافية المتخصصة في الكتابة على الشبكة، على ذمة قانون الجرائم الإلكترونية، بما يُحرج الحكومة أمام المنظمات الدولية والمستترين من أصحاب المواقع وبعض المنابر الإعلامية، خلْف وهْم: "حريةٌ سقْفُها السماء". وفوق ذلك، يَخلق تردِّي أوضاع الحريات في الأردن -بالتزامن مع التطبيق غير المفهوم برأيي لقانون الجرائم الإلكترونية-، ساحةً أوسع للمخربين وأصحاب الأجندات وتصفية الحسابات الشخصية والسياسية.
إزاء وضع مثل هذا، وفي ضوء الممارسات السابقة، نفترض أن بداية رأب الصدع تبدأ من الاعتراف بالآخر، بدءًا بأصغر فرد في المجتمع، وانطلاقًا من أبسط القضايا. وهذا الاعتراف يجب أن يستند بالضرورة إلى الاحترام المتبادل، والرغبة في التغيير، والتسليم بأن حرية التعبير -وإن اختلفت أشكالها من مكان إلى آخر أو من مرحلة إلى أخرى-، يبقى جوهرها الأساسي واحدًا، وهو الحق والمساواة في ممارستها. أيضًا يجب الأخذ بعين الاعتبار محاسبة أنفسنا والآخرين بالمقاييس نفسها، ومراعاة التوازن بين صيانة حرية التعبير ونبذ خطاب الكراهية، وتحكيم العقل في تقييم الأخبار المتداولة. كل ذلك للوصول إلى اعتراف كامل، بأن التعبير وحرية الرأي حقٌّ، لا هبة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.