في الرابع من آب/أغسطس 2020، وعند السادسة عصرًا تحديدًا، كانت "ليليان شعيتو" في "أسواق بيروت" تبحث عن هدية لزوجها، الذي يعمل ويقيم في أفريقيا. وبحسب معرفتنا لما حصل في ذلك التاريخ وذلك التوقيت، دوى انفجار هائل، وتشظّت أحياء من بيروت.
انضمت ليليان إلى آلاف المصابين/ات. وبعد رحلة طويلة بين الحياة والموت، خضعت لعملية دقيقة قبل بضعة أشهر لزراعة عظمة اصطناعية في رأسها. وفقًا للأطباء لم تعُد ليليان في حالة غيبوبة، لكنها في الوقت نفسه لا تملك وعيًا كاملًا، ولم تستيقظ تمامًا. في حالتها تلك، يتوقف جزء من الدماغ عن العمل، في حين تستمر الأجزاء الأخرى في أداء وظائفها. شيء ما مشابه، حلّ بلبنان نفسه بعد انفجار الرابع من آب.
بالنسبة إلى ليليان، العملية الجراحية لم تكن كافية؛ إذ تطلَّب الأمر أن تُنقل إلى مركز مختص خارج لبنان. حاليًّا، علِمْنا أنها تعرّفت إلى طفلها الرضيع، وأنها في حاجة إلى إكمال علاجها، لكن المحكمة قررت منعها من السفر، بطلبٍ من زوجها الذي يعطيه قانون الأحوال الشخصية اللبناني الحق في ذلك. إذًا، عرفْنا ما يحق لنا أن نعرفه من القصة: الانفجار، والوعي، والأمومة، والمحكمة، والهيمنة.
قبْل ليليان شعيتو، كان النقاش عن المحاكم الشرعية في لبنان تقليديًّا، إلى درجة أنه صار طبيعيًّا. ومع أن الرأي العام عرف وتعرّف إلى تجاوزات هائلة بحق النساء، فإن النقاش يراوح مكانه، وما زال يفتقر إلى الأدوات العلمية القادرة على إحداث تغيير أو اختراق في بنْية النظام الطائفي اللبناني، أو حتى في بنية المحكمة الجعفرية، التي تتولى النظر في قضية شعيتو نفسها، والتي حرمتها في البداية (عندما استعادت وعيها تدريجيًّا) رؤيةَ طفلها، ثم عيّنت نفسها وصيًّا عليها بدلًا من زوجها، ثم أعادت الوصاية إلى الزوج الذي منعها من السفر.
في حالة المحاكم الجعفرية تحديدًا، ربما يجب الإشارة إلى مسألة أساسية، وهي أن ثمة فارقًا فعليًّا بين مجموعة التفسيرات التي قدّمتها المراجع الشيعة للشريعة، وقانون الأحوال الشخصية المعتمد في المحاكم الجعفرية في لبنان. فالقانون الأخير يسري ضمن إطار علماني، في دولة غير دينية، ومَصادرُه الدينية ليست محط إجماع جميع الشيعة المتدينين، الذين يتوزعون في النهاية بين عدة مراجع، وبين أكثر من نظرية للحكم، لتحديد موقع الفرد في الجماعة، والعلاقة بين الجماعة والدولة. ومن ثَمّ، فإن الشريعة التي تعني للشيعة أكثر بكثير من الأحوال الشخصية، لا يمكن اختزالها في مجموعة القواعد التي سُلِخت على عجل في الحقبة الكولونيالية (الاستعمارية)، وبرغبة من المستعمِر نفسه في تعزيز الانقسامات داخل المجتمع.
من بين الأشياء الكثيرة التي تعنيها هذه الحقيقة، أن المحاكم الجعفرية ليست هي المحاكم الشرعية -بالمعني النهائي للكلمة-، نظرًا إلى استحالة الاتفاق على مرجعية دينية واضحة لها، في دولة غير دينية أساسًا.
النقطة الثانية، هي أن المحاكم الجعفرية تحظى بشرعيتها أولًا وأخيرًا من انتساب أعضاء الجماعة إليها، في عملية معقدة. ومع أن النظام الطائفي يُلزِم جميع الأفراد الانتساب إلى دولتهم عبر طوائفهم، وهذا لا يمكن أن يكون عادلًا بأي شكل من الأشكال، أو كافيًا لتشكيل دولة تحترم التعددية في الأساس؛ فإن إجراء استفتاء حول عصبيات الجماعات، ورغبتها في الحفاظ على المحاكم الشرعية، ليس أمرًا بتلك السهولة. ومهما كانت الآراء الرافضة لوجود محاكم دينية، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هناك تيارات واسعة، ولا سيما في الحالة الشيعية، تنادي بإجراءات تعتبرها إصلاحية. ويتذرع هؤلاء بالعوائق الكبيرة التي تعيق العمل القضائي، مثل: المحسوبيات في طريقة تعيين القضاة، والاستئناف الذي يشكّل حالة مدنية في صلب محكمة دينية، فضلًا عن الطبيعة البيروقراطية للمحكمة في حد ذاتها. ولكن ذلك لا يلغي أن الاجتهاد الذي يتباهى الكثير من أنصاره به، ليس عملية بسيطة، بل هو عملية تتطلب وقتًا وجهدًا هائلَين، لا يملك فيه الضحايا في الكثير من الأحيان ترَفَ الوقتِ لانتظار تحقيقه.
هناك فارق كبير بين ما يجب أن يكون الأمر عليه، وما هو ممكن أن تكون الأمور عليه. ولكن لا سجال في أن حراك النساء من أجل حقوقهن، سيلعب دورًا رائدًا في عملية التغيير، وإن كانت النهايات المرجوة تبدو بعيدة يا للأسف. حتى الآن، التغيير يخضع لشروط أقل مرونة بكثير، ويتعلق بانتظار تغيير قد يقوم به بعض المراجع الكبيرة، الذين يؤثرون في خيارات القضاة الشيعة اللبنانيين، لاتخاذ قرارات أكثر إنصافًا لحقوق النساء، أو يتعلق بتغيير المحكمة نفسها لارتباطها بالمرجعيات. فمسألة المحاكم الجعفرية ليست مستقلة في النهاية عن مسألة المحاكم الشرعية في لبنان، بشكلٍ عام. كذلك مسألة ليليان شعيتو نفسها، ليست مستقلة هي الأخرى عن مسألة ضحايا انفجار الرابع من آب، بشكلٍ عام أيضًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.