عندما سقط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان/أبريل عام 2003 بفعل القوة العسكرية الأميركية، سمعنا -نحن الأجيال الصغيرة حينها- بمصطلح الديمقراطية، الذي رنّ -وما زال- في آذاننا منذ عشرين عامًا. ولكون أغلب الدول المتقدمة في العالم تَحكمها أنظمة ديمقراطية، طمحنا أيضًا إلى أن نكون مثلها.
الفهم الخاطئ للديمقراطية برأيي مِن قِبل مجموعة ليست بالقليلة من المجتمع، يتمثل بأنه: "انتقاد وسب وشتم لِلسلطة ولِمن فيها، في أي وقت دون محاسبة". أما فهم جزء كبير من الطبقة السياسية العراقية للديمقراطية فيظهر كأنه مجرد: "إجراء انتخابات في أي حال، نزيهةً كانت أو عكس ذلك". إلا أن اختزال الديمقراطية ومفهومها العام بهذه الطريقة، أدى إلى نتائج كارثية نعيشها اليوم ونتحمل تداعياتها، خاصة تلك المتعلقة بفهم الطبقة السياسية واختزاله على اعتبار أنه "ذهاب المواطنين إلى صناديق الاقتراع".
للديمقراطية تعريفات متعددة، لكنها لا تختلف في الجوهر، وهو أن: "الحكم للشعب"، أي أن يكون الشعب أمام خيارات متعددة لتحقيق أهدافه وتطلعاته، من خلال السلطة التي يجب ألا تُحتكر بيد حزب أو جماعةٍ ما، كبيرةً كانت أو صغيرة. وهذا ما يجب أن يكون عليه عِراق ما بعد 2003. لقد مارس العراقيون منذ عام 2005 (حيث بدأت أول انتخابات في البلاد)، حقهم السياسي المكفول في اختيار أشخاص وأحزاب لتمثيلهم في مجلس النواب، واعتقدوا -وبإيهام من الطبقة السياسية- أن: "هذه الممارسة هي الهدف الذي كانوا يطمحون إلى الوصول إليه"، وكأنهم غير معنيِّين بالنتائج، في محاولة من قِبل الطبقة السياسية أن يقولوا لهم: "هذه هي الديمقراطية".
كثير من خطابات رؤساء الحكومات العراقية الذين أداروا الانتخابات، كانت تلمِّح إلى أن الهدف الحقيقي هو إجراء الانتخابات، وهذا في حد ذاته تضليل وضحك على اللِّحَى. وما الانتخابات في حقيقة الأمر إلا وسيلة إلى الوصول إلى أهداف أكبر، عن طريق إيصال ممثلين ديمقراطيين يؤمنون بالديمقراطية، ويكونون قادرين على خدمة المجتمع وتحقيق تطلعاته.
المشكلة الكبيرة في العراق هي أن النظام المؤطَّر بالديمقراطية، لا يتقيد به ديمقراطيون، بل أشخاص يلفظون هذا المصطلح على مضض، ويحترمون بعض النتائج، أي تلك التي تكون في مصلحتهم. لقد شكّلت الانتخابات الأخيرة التي جرت في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2021 منعطفًا جديدًا في عراق ما بعد صدام حسين، حيث جرى الرفض الكبير لنتائجها. وأظهرت النتائج تفوق التيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي فاز بـ73 مقعدًا من أصل 329، وهو ما لم يُعجب خصومه وشركاءه السابقين، الذين عُرِفوا لاحقًا بـ"الإطار التنسيقي" (يضم قوى شيعية سياسية معترضة على نتائج الانتخابات).
تظاهَر ذلك الإطار ورفع دعاوى قضائية بشأن نزاهة الانتخابات، التي ما كان ليرفضها لولا أنها جاءت بما يرضيه، وهذا هو الطبيعي. لم تنته المشكلة عند هذا الحد. فالصدر الذي خرج بمواقف كثيرة في الأشهر الأخيرة انسحب من مجلس النواب، بعد فشل التحالف الثلاثي الذي يضمه ومسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي في تشكيل الحكومة. فسنحت للإطار التنسيقي الفرصة لزيادة عدد مقاعده البرلمانية، بسبب الشواغر التي تركها نواب الصدر.
هذا كله أدخل العراق في أزمة سياسية هي الكبرى ربما منذ عام 2003، وقد تطورت فيما بعد إلى مواجهات مسلحة استمرت نحو 24 ساعة. هذه التطورات لم تأتِ اعتباطًا، فهي نتيجة حتمية لمحاولات الإقصاء المستمرة التي تتبعها أطراف سياسية متعددة. وهذا الإقصاء الذي لا يُمكن أن يتحقق في بلد متنوع بكل تفاصيله، سيضع العراق أمام حتمية المواجهات المسلحة، وأمام تركيز جديد على أن هناك ديمقراطية في العراق، لكنها من دون ديمقراطيين.
رفض الإطار التنسيقي نتائج الانتخابات وخسر فيها، ومنع الصدر عقد جلسات البرلمان الذي انسحب منه، لأنه يعرف جيدًا أن الإطار سيستحوذ على كل شيء، وسيُغير قانون الانتخابات الذي جاء له بـ73 مقعدًا، وهو ضعف ما حصل عليه في انتخابات 2018. ما أريد قوله هو: إن النظام الديمقراطي في العراق في حاجة إلى ديمقراطيين يؤمنون بها وبنتائجها. ففرصة تحقق الديمقراطية في بلد كان تحت سطوة نظام شمولي، ليست بالهينة. يقول فريدريتش إيبرت (أول رئيس دولة منتخَب ديمقراطيًّا في ألمانيا عام 1919): "الديمقراطية في حاجة إلى ديمقراطيين".
لا يُمكن أن يُدار نظام ديمقراطي بعقول إقصائية وشمولية، وأيضًا لا يُمكن للجميع في العراق أن يلغي بعضهم بعضًا. فهذه البلاد جُبلت على التنوع بكل أشكاله. وأخيرًا، يُمكن القول: إن "الساعين لإقصاء غيرهم، إنما يُعلنون إقصاء أنفسهم تدريجيًّا".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.