في إطار الجلسات التي تعقدها أديان تحت عنوان: “إيمان بلا جُدران”، كان لي مشاركة في الحديث في جدارٍ صُلب من الجُدُر، التي تَحُول دون إحقاق قيمة العدالة في المجتمع؛ حيث ساهم بقاؤه -وبهذه الصلابة- في ظلم المرأة وقمعها. تحدثتُ بأثر الخطاب الديني في بقاء حالات العنف التي تواجهها المرأة، وفي زيادتها. وهو خطاب لا يُجرِّم العنف ضد المرأة، بل يُصنّفه إلى عنفٍ مسموح بقصد التأديب، وعنف ممنوع.
يمكن نقد هذا الخطاب من ثلاثة محاور: الأوّل هو إشكاليّة التعامل مع المرأة باعتبارها شخصًا ناقصًا غير ناضج يحتاج إلى التأديب، ثم الحُكم عليها بواسطة قاضٍ قد يكون غير مُؤهَّل، بل قد يكون هو المحتاج إلى التأديب، على اعتبار عوامل النقص البشريّة القابعة في المرأة والرجل على حدٍّ سواء. والمحور الثاني هو تمادي المعنِّف، وتدرُّج العنف في معظم حالات العنف الواقعة على المرأة، من عنف بسيط سمَح به الخطابُ المقدّم، إلى عنف مُفرِط قد يؤدّي إلى العاهات المستديمة أو القتل، في حالات كثيرة حصلت وتحصل بشكل شبه يوميّ؛ إذ إن قبول القليل من العنف، يؤدّي إلى العنف المفرط المؤذي نفسيًّا وجسديًّا. والمحور الثالث هو إغفال العنف الواقع على العائلة ككلّ، والآثارِ النفسيّة في أفراد العائلة، التي تقبع تحت تهديد العنف. وهي آثار سيّئة ومستمرّة ومؤثّرة، في حياة أفرادها بشكل سلبيّ.
من الضروريّ الإشارة إلى عدم التوازن بين الخطاب الدينيّ المقدّم للمرأة، والخطاب المقدّم للرجل، في حال التعرّض للظلم. فالمرأة مُطالَبة بالصبر والاحتساب وانتظار المكافأة في الآخرة، عندما تتعرّض للظلم الواقع عليها من الرجل (أخًا كانَ أو أبًا أو زوجًا)، في حين الرجل مطالَب بالنهوض والثورة على الظلم الواقع عليه من محيطه. إنه خطاب يستعيذ بالله من قهر الرجال، لكنّه لا يُبدي نفس الرفض لقهر المرأة. وهو أيضًا خطاب يرى أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. ومع أن لفظة “المؤمن” هنا تنطبق على المرأة والرجل، إلّا أنها لا تُستخدم إلا لِحثّ الرجل على الشجاعة، ورفض القمع والثورة على الظلم، في حين يجري ربط ضعف المرأة وصبرها بمكافأة في الآخرة، وكأنّنا نُكافئها على ضعفها.
من الغريب أن يَتوقع هذا الخطاب من المرأة المعنَّفة المقموعة، أنْ تُربِّي رجلًا شجاعًا يثور على الظلم. فكيف تُعلِّم المرأة ابنها الرجل قِيَمًا لا تَعرفها ولم تُجرّبها؟! وكيف يَخرج مِن بيت لا يسُوده الودّ والتفاهم، أو يقوم على مبدأ القبضة المطلقة للفرد، رجالٌ يفهمون الحرية ويدافعون عنها؟!
إضافةً إلى موضوع العنف، يتجنب الخطاب الحاليّ الحديث في حالات إنصاف للمرأة، خارج إطار النصوص الشرعيّة. وهذه الحالات موجودة عبر التاريخ، وبعضها حصل في عهد الخليفة عمر، ولكن لا يجري تداولها إطلاقًا بوصفها خصوصيّة لبعض حالات الميراث، التي تَستوجب رحابة في القرار لإحقاق العدالة.
إن الاطّلاع على هذه الحالات، قد يَفتح باب النقاش في ضرورة المرونة فيما يتعلّق بقوانين الميراث، ومراعاة الاختلافات في ظروف الحالات، كنصيب الزوجة من الميراث بعد زواج طويل، أو بعد مشاركتها للزوج في الإنفاق خلال فترة الزواج، أو حصص البنات من ميراث والدهنّ في حال لم يكن له ابنٌ ذَكر، أو موضوع استثناء المنزل من المحاصَصة التي يدخل فيها الأعمام والأقارب أحيانًا في هذه الحالة، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية بقاء الفتيات في بيت والدهنَّ من باب الرحمة والعدالة، في زمن تَغيَّر فيه المجتمع، وازدادت فيه حاجة البنات إلى ملاذٍ آمِن أكثر مِن أيّ وقت مضى. والأمثلة الأخرى التي تستوجب نقاشها كثيرة، ولا يتسع لها مقال واحد.
نحن في زمن كُرِّسَت فيه أدوار العائلة الممتدّة لمصلحة النواة (أي الأُسرة)، وتميَّزَت فيه أدوار المرأة عن الأدوار التقليديّة، وتَغيَّر فيه مفهوم الأسرة عن المفهوم التقليديّ. اليوم، تعلَّمت المرأة، وعملت وساهمت في بيتها بمساهمات لم تكن مطلوبة فيما مضى، إضافة إلى مسؤولياتها التقليديّة في الأمومة. إنَّ زيادة الواجبات، لم تكن أبدًا مترافقة مع زيادة في الحقوق. وفي هذا إخلال في قيمة العدالة؛ ما يَستوجب من هذه التغييرات مرونة في القضايا المتعلقة بالمرأة، خصوصًا في أبواب حقوق الزوجة والميراث، وتجريم العنف الأُسَري، وذلك بشكل قطعي.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.