يولد الإنسان خاليًا من المعرفة، ومجرَّدًا من كل تصور عقلي أو انتماء ثقافي أو ديني، ثم يبدأ مسيرة التعلم بالتفاعل مع محيطه الاجتماعي والطبيعي حتى نهاية حياته. وقد جسّد القرآن هذه الحقيقة فيما ورد فيه: {واللهُ أخرجَكُم من بُطون أمهاتكم لا تَعْلَمون شيئًا وجعَل لكم السَّمْعَ والأبصار والأفئدة لعلَّكم تَشكُرون} [النحل: 78]. فالسمع هو أول المُدرِكات الحسية التي يتلقى بها الإنسان المعرفة، ثم يَدخل البصر وبقية الحواس، وينتهي بالإدراك العقلي “الفؤاد”.
يؤسِّس الاستماع نوعًا من الثقة المتبادلة بين الناس، ويعزز التواصل والتفاهم بينهم. والاستماع يعني الاحترام والتواضع، وحيث يتوقف الاستماع، يتوقف التعلّم والحوار والتفاهم. ومن لا يُحسن الاستماع، لا يحسن الحديث. فالحكيم هو من يستمع أكثر مما يتكلم، ويقرأ أكثر مما يكتب. فالإنسان لا يعرف أهمية ما يقال دون الإصغاء، والإصغاء لا يتحقق دون الصمت والتوقف عن الكلام. وهنا يقول الحكيم الرومانيّ “زينون”: “إنّ لنا لسانًا واحدًا وأُذنَين؛ لِنَعلم أنّه ينبغي لنا أن نصغي ضعف ما نتكلّم”.
مِن أبلغ الآيات التي تؤسس لفضيلة الاستماع والتعلم من الآخرين، قوله تعالى {الذين يَستمِعون القَول فيَتَّبِعون أحْسَنَهُ أولئك الذين هداهُمُ اللهُ وأولئك هم أُولُو الألباب} [الزمر: 18]. وأحسن الأقوال هو أنفعها للناس. فكل قول لا يزيد القلوبَ رقَّةً ورحمة، ولا يحرّك مياه العقول الراكدة، فلا نصيب له من الحسن. والجميل في كلمة “أحسَنَهُ” في الآية، أنها تتضمن الإشارة إلى تدرج الحسن وتباين أطيافه. فالأمر أوسع من مجرد اختيار بين لونين أو فكرتين، تُمثِّل إحداهما نقيضًا للأخرى. والمؤمن الحكيم هو من يرتقي في بحثه عن الحقيقة، من اتِّباع الحَسن إلى الأحسن.
البحث عن “الأحسن” يتطلب الانفتاح على الجميع والتفاعل معهم، ويُفترض في المؤمن أن يبحث عن الحكمة أينما كانت وأيًّا كان قائلها، كما يقول النبي الكريم: “الكلمةُ الحكيمة ضالَّةُ الحكيم، حيثما وجدَها فهو أحقُّ بها” (رواه البيهقي). تحتاج الهداية بمعناها العميق إلى كثير من الاستماع والتريّث، والتفكر فيما حولنا من المقولات والأفكار، قبل إصدار الأحكام والقرارات. فالبحث والاجتهاد هما اللذان يعطيان الهداية معناها، والمهتدين مكانتَهم. فلا فضل لمن يُقلِّد حقًّا لا يعرف معناه، على من يقلِّد باطلًا لا يعرف سبب بطلانه.
الاستماع لقول الله هو الاستماع لصوت الحق والخير، وهو استماع فيه تدبُّر وتفكُّر بعظمة الخالق، وهو أفضل من القرابين، كما يقول صموئيل: “هل مَسرَّةُ الربِّ بالمُحْرَقات والذبائح كما باستماع صوت الرب؟ هُوَذَا الاستماع أفضَلُ من الذبيحة، والإصغاءُ أفضَلُ من شَحْم الكِبَاش” (1صم 15: 22). ولكن الاستماع لا ينحصر في الاستماع إلى كلام الله، وإنما يسبقه الإصغاء إلى كلام البشر أولًا، ثم يرتقي ليبلغ درجة الإنصات لكلام الله.
يمثِّل الإصغاء درجة عميقة من الاستماع، الذي ينصت فيه الإنسان بحواسه وعقله. وتَعلُّم الإصغاء أصعب من من تعلُّم الحديث والكلام، ويكون الإصغاء أكثر صعوبة على النفس عندما يصغي الإنسان إلى من ينتقده، كما فعل أيوب (عليه السلام) مع أصحابه: {هَأَنَذَا قد صَبِرتُ لكلامكم. أَصغَيتُ إلى حُجَجِكم حتى فحَصْتُم الأقوال} (أيوب 32: 11). وفي رسائل العهد الجديد، يحثُّ يعقوب المؤمنين على أن يسارعوا إلى الاستماع، ويتريثوا في الكلام: “إذًا يا إخوتي الأحِبَّاء، لِيَكُنْ كلُّ إنسانٍ مُسْرِعًا في الاستماع، مُبْطِئًا في التكلم، مُبطِئًا في الغضب” (يع 1: 19).
تبقى مساحة الإصغاء هي الفضاء الأرحب والأوسع الذي يلتقي فيه المختلفون، ليبحثوا عن مساحات جديدة من المعرفة والتعارف. وأما الشعور بالغلبة وامتلاك سلطة الحديث وإسكات الآخرين، فلن يؤدي إلى سوى مزيد من الجهل والطغيان.
عندما تتجسد فضيلة الإصغاء في حياتنا السياسية والدينية، فإنَّ أحدًا لن يضطر إلى إخفاء رأيه أو معتقداته، ولن ينفجر صمت المقهورين ليكون طوفانًا يُغرق أرباب الصوت والكلمة. لو أصغى الطغاة إلى أصوات المعذَّبين والمستضعَفين، لانتهى الظلم والطغيان، ولو أنصت المُترَفون والمتخَمون إلى أصوات الجائعين، لَما وجدْنا في العالم فقيرًا ولا جائعًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.