من السهل جدًّا -بعد عام كامل- أن نقول: "عند السادسة والخمس دقائق عصرًا، في يوم الرابع من آب/أغسطس عام 2020، دوَّى انفجار ضخم في العنبر رقم 12 داخل مرفأ بيروت، أدى إلى وقوع مئات القتلى وآلاف الجرحى، ونُزوح ثلث سكان المدينة". لكن، من الصعب جدًّا أن نعترف بأننا -بعد عام كامل- لا نملك أي إجابة عن سؤال العدالة، بوصفها –على أفضل تقدير- محاولة صادقة للنسيان، أو لبناء طبقة بديلة في الذاكرة عن طبقة القلق، حتى وإن كانت في تعريفها القانوني عكس ذلك تمامًا.
ربما يكون البحث عن العدالة هو الحل الوحيد، لكي يتحرك الزمن من مكانه قليلًا، ولكي تتجرأ المدينة وترفع رأسها إلى السماء. فلا تجد سحابة من دخان، أو وجوه ملائكة مُربَكة تحاول التسلل برفقٍ إلى الحاضر.
عندما نقول: "في الرابع من آب تَوقَّف الزمن في بيروت"، فنحن نشعر بأننا لا نبالغ، مع أننا نعرف أن الزمن يستمر من دوننا. مع ذلك، يمكننا إضافة الشواهد الكثيرة إلى قولنا. عقارب الساعات في المنازل المقتولة، لم تعد قادرة على المضي قدمًا إلى الأمام. النوافذ العارية في شارع "الجمّيزة" تُطلّ على بقايا المشهد. وإنْ دلفْتَ إلى مبنًى تَعطّل في "مار مخايل"، فستجد زجاجًا منثورًا يحارب محاولات النسيان. والضحايا صادقون أكثر منّا، ذهبوا إلى حيث ينتهي الزمن. يقول "هايدغر" عن الوجود -بعد محاولات رهيبة-: إنه "موجود هناك". بعد عام كامل في بيروت، ستلتقي يوميًّا بأشخاص يقولون: "كنّا هناك". يشعرون بأنهم موجودون في هذا العالم، لسببٍ رهيب ليس سوى وُجودهم في بيروت لحظة الانفجار، ويشعرون بأن الانفجار بقي في داخلهم، وبأن الانفجار، هو العالم.
كل شيء يدعو إلى التصديق بأن الزمن توقَّف. في السادسة والخمس دقائق، اعتقد الناس في شارع "بدارو" أن الانفجار حدث في منطقتهم. سائق الدراجة الذي أنقذته خوذته بعدما جرفه العَصْف إلى الرصيف، لا يعترف بتقدم الزمن، فهو ما زال يسمع الصوت. زجاج يتكسر من المبنى العملاق، ويهطل أمام خوذته وهو منبطح. صوت الانكسار والتشظي. في "الأشرفية" اعتقدوا أن الانفجار حدث في الأشرفية. يعيد المشهد نفسه على امتداد رقعة واسعة من بيروت. تُسرد القصص كما لو أنها لم تنته بعد، في محاولة دائمة لتكذيب الذات.
تُروى القصص ليعترف أصحابها بأنهم خسروا في لعبة الزمن، شرط أن يعترف الزمن -بِدَوره- لهم بحقهم في النسيان. لكن الزمن ليس متسامحًا إلى هذه الدرجة، وإن كان يمضي فهو يمضي كمِحْدلة. يطحن الذاكرة، ونحن ننسى فقط ما نتذكّره. لا يمكننا أن ننسى شيئًا لا نتذكره في الأساس. المعادلة ليست في صالح البشر. وقد تؤدي محاولات الترقيع إلى إحداث تشوهات مؤلمة، مثل إقامة نُصْب أخرق -على عجلٍ- فوق جثة الذاكرة، أو الرهان على أن مرور الوقت سيؤدي في النهاية إلى التخلي عن العدالة، لأجل الخلاص من تمثيلات العنف التي تستحضرها الذاكرة. المرفأ سيبقى في مكانه، والصوت قد يتضاءل بابتعادنا عنه. وقد تُرمَّم المباني بعد ألف عام، أو تختفي المدينة من أساسها، لكن الزمن أيضًا هو ما نعيشه الآن. رغم الحروب الكثيرة التي عاشها اللبنانيون/ات، أسَّس انفجار الرابع من آب/أغسطس لعقدة يبدو تجاوزها صعبًا: "توَقُّف الزمن".
ليس هناك مواجهة بيننا وبين العالم. نحن جزء من هذا العالم، رغم أنه تخلى عنّا. نحن عمَّال الأَهراءات، ونحن المارة الذين قذفَنا العصف من فوق الجسر إلى البحر، ونحن العابرون والعابرات في الشوارع الذين أصابت الأحجار مِنَّا مَقتلًا، ونحن الذين مِتنا في بيوتنا عندما انهارت فوق رؤوسنا. بالنسبة إلينا، نحن الضحايا المباشرون، توَقَّف الزمن بالنسبة إلينا. نتحدث عنكم أنتم -أيها الناجون-. العدالة لأجلكم، وليست لأجلنا. الموت يَحدث دفعة واحدة، لكن القلق ينهب الروح، ويحوّل الوعي إلى بقعة مظلمة. كان القلق نظريًّا، كان مسألة وجودية مختصة بمُحبِّي الفلسفة، لكنه صار عامًّا في بيروت.
في اليوم التالي للانفجار، بعدما رفع الناس رؤوسهم، اكتشفوا الوجودية عن قرب، من دون أن يكونوا في حاجةٍ إلى تسميتها. اكتشفوا هشاشتهم باكتشاف منسوب الزجاج المكسور. هذا العالم الذي نجد أنفسنا فيه فجأة، نعلم مع الوقت أننا خارجون منه، ولا نعرف إلى أين. لقد كان انفجار الرابع من آب/أغسطس تمرينًا قاسيًا على الهشاشة، وأخرج الهلعَ من قعر الذات إلى السطح، تُكنّسها الأيام، ولا تزيل صوت التشظي، مثل الجرح الذي يزول، ويبقى الألم. مقابل هذا القلق الذي يفتِّت القلب، يوجد نور في آخر النفق. لكن السير في المدينة المدمّرة من الداخل ومن الخارج، يعيد السؤال إلى نقطة البداية: هل هذه مدينة؟ وهل هي بيروت فعلًا؟ وهل هذا مجرد نفق، أم أن هذا هو الوجود، ولا شيء سواه؟!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.