مضى أكثر من نصف عام منذ بداية وباء كورونا (كوفيد‑19). وقد لازمه أمران، أحدهما: كثرة التحليلات، سواءٌ في نشأة الوباء وطبيعته، أو في انتهائه والعواقب التي سيخلِّفها. الأمر الثاني: سرعة تفشي الفيروس، حيث أصبح حصول مليون إصابة يستغرق عالميًّا أقل من أسبوع، مع ارتفاع معدل الوفَيَات.
كثرة التحليلات، وارتفاع أعداد الإصابات والوفَيَات، جعَلَا بعض الناس يشعرون بأن الفردانية في الحياة أصبحت خطرة، وبأنه لا بد من عودة الشمولية. لذلك، يرى بعض اليساريين، أن من نتائج الجائحة تَقدُّم النموذج الصيني الاشتراكي على النموذج الغربي الرأسمالي، بل يرى بعضهم أن هذا هو زمن أُفول الرأسمالية. وبعيدًا عن الجدل في هذا الجانب، والذي أرى فيه أن الرأسمالية هي السياق الطبيعي في التطور الاقتصادي، وبغضِّ النظر عن الانتقادات التي تواجهها، وعن ضرورة تهذيبها المستمر بالأخلاق؛ أتحدَّث هنا بالذات بالشمولية، التي كشفت عنها الجائحة.
الفردانية والشمولية شكَّلَتا معضلة فلسفية في تقرير وجودهما، ومدى حاجة البشر إليهما (منفرِدَتَين أو مجتمعتَين). وعلى هذا القدر، اختلف المقصود بهما. والذي أعنيه هنا بالفردانية، هو قدرة الفرد على اتخاذ قراره بنفسه، وعلى سياسة حياته الخاصة وفق حريته الشخصية. وكما تمس الفردانيةُ الفرد، فهي أيضًا قد تَلحق الجماعةَ مقابل المجتمع والدولة، وتَلحق الدولةَ مقارَنة بالنظام العالمي، في حين الشمولية هي ذلك النظام الذي تفرضه المنظومة الكبرى على ما هو دونها، كالنظام العالمي على الدولة، والدولة على المجتمع، والمجتمع على الفرد؛ سواء بالقانون أو بالأعراف أو بنطاق التعامل في الحياة.
النزاع حول الفردانية والشمولية ليس جديدًا في التاريخ البشري. فمنذ القدم، يَطمح الإنسان إلى أن يمارس حياته مستقلًّا دون ضغط المجموع، ولكن معظم مسارات العلاقة بينهما، كانت تحددها الأعراف وليست النظريات، حتى جاء القرن العشرون منتصرًا للمِلكيّة الفردية وحرية التصرف والتعبير. فنظَّمت القوانينُ والمواثيق الدولية هذه العلاقة، والتي يرى بعضهم أنها لم تجعل للشمولية مجالًا، إلا في إطار ما ينظِّم الكيانَ الجمعي عمومًا. وقد حدث ذلك في ظل الصراع مع النظرية الشمولية للشيوعية، حيث أصبحت الرأسمالية عنوانُها العام هو الفردانية.
لقد مضى حوالي ثلاثين عامًا على سقوط الشيوعية منذ ظهور جائحة كورونا، حيث ظهرت خلالها شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، التي رأى كثير من الناس أنها عززت الفردانية في مقابل الشمولية. ولكن، هل فعلًا كان العالم يسير منتصرًا للفردانية؟ لقد كشفت جائحة كورونا عن نظام شمولي على مستوى العالم، غيْر قادر على أن يراعي الخصوصيات، بل غيْر قادر على الانحياز إلا إلى قيمة الحياة وحدها نوعًا ما، مع أن الانحياز إلى هذه القيمة لا يعني الانتصار لها. فقد أهدرت معظمُ الدول العديد من القيم والحقوق، كالحرية وطرق التعبد والاجتماع والتنقل والرفاه، في مقابل ألا ينتشر الوباء. وأصبحت الفرص محدودة بأن يتخذ الفرد سبيلًا آخر، بل لم يعد في إمكانه أن يخرج من بيته في زمن الحظر؛ إذ خروجه يعرِّضه لمخالفة القانون، أو لعين الكاميرا، أو لِسَوط الشرطة، أو لازدراء عموم الناس.
رُبَّ قائل يقول: الجائحة جاءت مفاجِئة، ولا بد للبشرية أن تسلك هذا المسلك حتى تَعبر بأقل الخسائر. وهذا صحيح بالنسبة إلى الواقع الذي نعيشه، وهو ما أَقصد به أن كورونا كشفت عن شمولية خفية قائمة في العالم. فالعالم لم يعمل على تعميم الفردانية -مع أهميتها- إلا في جوانب شكلية. أما جوهر الحياة، فلا يزال يئنُّ تحت وطأة الشمولية الكونية، التي يمارسها المجموع المتسلط على ما هو دونه من طبقات اجتماعية في شتى المجالات، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون.
نعم، ما أظهرَته كورونا في هذا الجانب ليس قليلًا، إلا أنَّ ما يتخفى تحت الشمولية الناعمة أكثر من أن يحصى. أليس الاتحاد الأوروبي بهذا الشكل من القوانين والأنظمة الجامعة للساكنين تحت دوله الأعضاء، تُمارَس فيها شمولية؟ وأليست فكرة الدولة ذاتها بهذا الشكل أيضًا نوعًا عتيدًا من الشمولية المصادِرة لحق الفرد؟ وأليست أنظمة التعليم القائمة هي الأخرى تنبثق مناهجها من الفلسفة الشمولية؟ وهكذا.
لا أريد هنا أن أنتصر للشمولية أو الفردانية، ولا حتى للجمع بين محاسنهما. فلكل فلسفة منهما مُنطلَقها الذي تنطلق منه، والواقع الذي تعمل فيه؛ وإنما أرمي إلى أنه لا يزال الطريق طويلًا لِتَحقُّق الفردانية، التي نَظّر لها بعض الفلسفات المعاصرة، والتي ربطت بينهما وبين الحرية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.