منذ بضعة أشهر، أثار بحث أكاديمي في علم الاجتماع قامت بإعداده طالبتان جزائريتان، يحمل عنوان: "تسوُّل المرأة اللاجئة السورية في المجتمع الجزائري"، نقاشًا فكريًّا وزوبعة عاطفية على مواقع التواصل الاجتماعي. تعرضت فكرة البحث وعنوانه لنقد لاذع، حيث عبر بعض المثقفين الجزائريين وغيرهم عن استيائهم، وطالبوا برفض البحث وسحبه، لأنه يقدم صورة عنصرية واحتقارية مهينة عن المرأة السورية، بل وعن المرأة العربية في أي مكان.
أيضًا استنكر عديد من النشطاء والناشطات السوريين البحث، واعتبروه إهانة للشعب السوري صدرَت من قِبل مؤسسة أكاديمية، سمحت لنفسها بأن تصف المرأة السورية التي هجرت بلادها هربًا من حرب دموية، بـ"المتسولة، وأكدوا أنه ما كان يجب ذكر جنسية اللاجئات. اعتبر هؤلاء النشطاء أن عنوان البحث يقوم بوصم اللاجئة السورية عبر تعميم حالات فردية؛ ما قد يؤثر سلبًا في الوضع الاعتباري والاجتماعي للاجئين السوريين داخل المجتمع الجزائري وخارجه. واتخذ النقاش منحًى عاطفيًّا حادًّا ضد الرسالة الأكاديمية، التي اعتُبرت "فضيحة أخلاقية" تعرضت للاجئين (رجال ونساء)، كان يُفترض فيهم أن يكونوا ضيوفًا في دولة "شقيقة".
لا شك أننا نتفهم بعمق إحساس كل سوري وسورية بمرارة لا توصف، لما آلت إليه أوضاع اللاجئين، ليس في الجزائر فقط، بل في أغلب الدول العربية. ثم إننا يجب أن نعي عمق مأساة التهجير، التي تحكيها شهادات لاجئين ولاجئات سوريين حول رحلتهم الطويلة نحو الدول المغاربية، ومعاناتهم من جشع المهربين في دول استقروا بها، ريثما يجدون وسيلة إلى العبور إلى أوروبا "أرض النجاة". في انتظار ذلك، يقول الكثير منهم، وعيونهم دامعة: "لم يعد لنا وطن!".
لكن الكثير من النشطاء اعتبروا أن الأمر يتعلق فقط ببحث سوسيولوجي وصفي، لنتائج مقابلات أجرتها الباحثتان مع نساء سوريات لاجئات، من أجل الوقوف على أسباب احترافهن للتسول، وللبحث عن حلول تضمن كرامتهن وتَقِيهنّ شر التسول ومهانته. ثم أكدوا أنه يجب التمييز بين رد الفعل العاطفي الذي قد يفتقر إلى الموضوعية والتحليل الاجتماعي، وذلك الذي يكتفي برصد الظاهرة الاجتماعية ووصفها.
لا شك أن مأساة اللاجئين واللاجئات السوريين تطرح مسألة بناء الدول العربية لسياسات خاصة من أجل إدماج اللاجئين، وهي سياسات تشكل جزءًا أساسًا من "الحوكمة" الاجتماعية والأمن الإنساني. وأيضًا تطرح مسؤولية المجتمعات العربية المضيفة عن حماية حقوق اللاجئين من الأوضاع اللاإنسانية وكل أشكال التمييز التي يعيشونها؛ وذلك مقارنة بمجتمعات أوروبية استقبلت الآلاف من اللاجئين واللاجئات السوريين، ومنحتهم وضعًا إنسانيًّا متقدمًا.
لذا، فإني أعتقد أن مسؤوليتنا الأخلاقية هي وجوب ألَّا نقبل أن تتحول مأساة اللاجئين واللاجئات إلى مجرد ظاهرة اجتماعية، أو أن يتحول الوضع الإنساني إلى مجرد "خطابات علمية" صماء وباردة، فنفقد الإيمان بقدرتنا على الفعل والتغيير. في كل الدول المغاربية أصبحت عبارة: "عائلة سورية في حاجة إلى المساعدة" اعتيادية. ففقدنا الوعي بأن أبشع أنواع التطبيع هو التطبيع مع المآسي، وانتهاك كرامة من اعتبرناهم دومًا إخوة لنا.
أمام مأساة الشعب السوري، توارت وانتكست المشاريع الإيديولوجية والخطابات الدينية، عاجزة عن التفعيل العملي لمقولات الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية، وأيضًا ظهر عجز مجتمعاتنا التي عرفت دومًا تضخمًا في الخطاب الأخلاقي، عن بناء سياسات أخلاقية لتدبير إشكالية اللاجئين؛ ما يطرح السؤال حول مسؤولية المؤسسات الدينية عن تحويل المقولات والإيديولوجيات الدينية إلى رأسمال للتعاطف الإنساني. أيضًا نتساءل بحرقة: لماذا لم تستطع أموال الأمة العربية والإسلامية وثرواتها تجنيب اللاجئين واللاجئات السوريين مذلة التشرد والتسول؟
لا يمكنني هنا إلا أن أقتطف بضع فقرات من رسالة وجهتها الكاتبة السورية أحلام العظم إلى كاتبتَي الرسالة الجامعية، وهي تكشف عن شعور العزلة والخذلان الذي يحس به الإنسان السوري، وتجعلنا نعي عمق الردة الأخلاقية التي تعيشها مجتمعاتنا، ومدى تطبيعنا مع القبح، وأيضًا تُبين جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعا. جاء في الفقرات:
"من أخلاقنا –نحن في سورية– ألّا نسمي "المتسول" متسولًا، وإنما نسميه محتاجًا... أما في باقي أصقاع الأرض، فيسمونه متسولًا أو شحّادًا… فهذه المرأة السورية المسلمة المتسولة التي تتحدث عنها رسالة الماجستير كانت تطبخ لأولادكم (أي أصدقاء ولدها) القادمين من الجزائر للدراسة في سورية بالمجّان، وكانت تعاملهم كأولادها… هذه المرأة المسلمة المتسولة من نسل الأمير عبد القادر الجزائري، الذي اختار أن تكون الشام ودمشق منفاه الأخير، فاستقبله أهل الشام بالتكبير والتهليل، وأنزلوه منازل الأمراء التي تليق به... قد تكون متسولة نعم، ولكن الشيء الأكثر أهمية من التوصيف ومن نيل شهادة الماجستير هو: لماذا ألجأتموها إلى التسول؟ أليس في الجزائر من يقرأ قوله تعالى: {ويُطْعِمون الطعامَ على حُبِّه مِسكينًا ويتيمًا وأَسِيرًا}؟!".
إنها أسئلة ستظل تُطوِّقنا، تقوِّض الكثير من "أساطيرنا المؤسسة"، وتجعلنا نعي ضرورة إعادة بناء إنسانية مجتمعاتنا وأنفسنا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.