- في كثير من الحالات يدور جدل حول مساءل فهم الدين والمساحة المخصصة للدين، بل الأحرى للمؤمنين في الحياة العامة، وحتى أولئك الذين يتخذون موقفًا حذرًا من تدخل الدين في الحياة العامة، يصعب عليهم نكران قدرة الدين، من خلال رجال الدين والمؤمنين والمؤمنات، على لعب دور إيجابي في السلم الأهلي والمسؤولية الاجتماعية الدينية.
- من بين هؤلاء، لفتني نشاط البهائيين في الأردن، مؤمنون بلا أغراض تبشيرية، ولا نوايا خاصة، ولكنْ بانتماءٍ قوي إلى المجتمعات التي يعيشون فيها، وبرغبة جامحة في ترك الأثر أينما حلُّوا. قَدِموا إلى الأردن قبل أكثر من مئة عام، بهدف استصلاح الأراضي الزراعية والاستثمار. فلم ينعزلوا في تكيَّة خاصة بهم، بل انسجموا مع المجتمع الأردني، وأصبحوا جزءًا من النسيج الوطني.
- أتذَكَّر هذه الفئة المؤمنة اليوم، وأُذكِّر بالحاجة المُلحَّة إلى هذا النوع من الإيمان، لا سيَّما وأنَّ منطقة الشرق الأوسط تحاول الاستيقاظ من موت سريري بعد أعوام عديدة من الصراعات والحروب، حيث هدأت أصوات الرصاص والمدافع، وبدأت تتشكل ملامح الدول بعد صراعات عميقة. فسوريا ولبنان والعراق وبقية الدول العربية، تحتاج اليوم إلى فئات مؤمنة من كل الطوائف تتجاوز الخلافات العقائدية، وتركز على المسؤولية الاجتماعية الجامعة، لبناء دول قوية مدنية تُؤْمن بالتنوع الديني والثقافي لأبنائها، وبالحقوق المتساوية تحت راية القوانين والأنظمة.
- هذه الدول اليوم في أمسِّ الحاجة إلى التعافي الاجتماعي والاقتصادي. إنَّ التعليم والصحة والاقتصاد والسياحة، كلُّها قطاعات لا يمكن البدء ببنائها في أجواء من الشحن الطائفي. والبناء على عكس الهدم، يحتاج إلى الوعي والسلام والتفاهم، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية، والترفع عن الانتقام الأعمى وشريعة الغاب، والرجوع إلى القانون، واحترام العقائد، وعدم التعدِّي على إيمان الآخرين بالقول أو الفعل، وتجريم خطاب الكراهية والعنف، والعناية بوضع الوطن أوَّلًا.
- أما في غزة الخارجة لِتَوِّهَا من حرب إبادةٍ لم تُبقِ فيها حجرًا على حجر، وخلّفت آلاف اليتامى والمشوهين، فهي الأخرى تحتاج إلى وحدة الصف بعيدًا عن الانتماءات الدينية والحزبية. إنَّ الإعمار مهمة شاقة، والغزاويِّين منهَكون أكثر من أي وقت مضى، وآلة القتل لم تُميز بين غزاويٍّ وغزاوي على أساس انتمائه السياسي أو دينه أو جنسه.
- إن دور المؤمن لا ينتهي بانتهاء الأزمة أو توَقُّفها، وقيم الإيمان من صبر ومؤازرة وتحمُّل وعدالة، لا تُطلَب في الشدائد ومواجهة العدو فقط، بل إن هذه القيم مطلوبة لصناعة السلام العادل، الذي يُعمِّر ويؤسِّس لعلاقاتِ مواطَنةٍ صحية وإنسانية بين أبناء الوطن الواحد. وكما احتفل التاريخ بالشجعان من أبطال الحروب، فقد حفر أسماء الشجعان من أبطال السلام الأهلي بحروف من ذهب.
- عندما نُفِي عبد القادر الجزائري إلى دمشق، بعد سنوات من مقاومة الانتداب الفرنسي فيها، لم يتوقف الرجل عن نضاله بتوَقُّف المعارك، بل بدأ مرحلة جديدة سطَّرت خلودَه -لكن من باب آخر-، وهي مرحلةُ زعامةٍ جديدة، دينية وسياسية وعلمية، حيث حَفِظ له التاريخ الجهد الذي بذله في إطفاء حرائق الفتنة، التي اندلعت في الشام عام 1860. أيضًا حُفظت له بطولاته ضد الانتداب الفرنسي قبل النفي، إذْ فتح بيته وبيوت أتباعه لحماية المسيحيين آنذاك، ودخل التاريخ من باب الإنسانية الواسع، كما دخله سابقًا من باب محاربة المعتدي على بلاده.
- أما البطريرك غريغوريوس، الذي خرج المسلمون والمسيحيون في جنازة مهيبة له بعد وفاته، فقَدْ خلَّد حياته وذِكره بأفعاله العظيمة، التي لم تفرق بين مسلم ومسيحي. إنَّ ما فعله من مساعدة لأهل الشام في أيام المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى، منحه لقب عمر بن الخطاب المسيحي. لقد استدان البطريرك لإطعام الفقراء المسلمين والمسيحيين، ووصل به الأمر إلى بَيع صليبه، وفتْح أبواب الكنائس للمسلمين الجوعى.
- هناك أبطال في الحروب تُدافع عن أوطانها ضد المحتلين والغاصبين، وهناك أبطال يَعملون في صمت أيام الأزمات. وعندما يُنزَع فتيل المعارك، يُذكِّرون أقرانهم من نفس الطائفة بأن الأرض مُلكٌ للجميع، وأنها احتضنت أبناء الطوائف الأخرى مئاتٍ وآلافًا من السنين، ويترفعون عن التحزب والعنصرية، ويُؤْمنون بالتآخي الإنساني وحُبّ الأوطان، والتركيز على القيم الجامعة التي توحِّد أبناء الوطن تحت راية واحدة.
- مهمة المُواطن المُؤْمن اليوم تتعدى علاقته بالخالق، وعلاقتَه بالمؤمنين من رجال الدين على وجه الخصوص. فلا يمكن للأوطان أن تتعافى دون جهود رجال الدين والمؤمنين والمؤمنات، في جمع الناس تحت راية واحدة، والتركيز على البناء، والتعليم والإعلام، ونبذ الرسائل المحرضة ومحاربتها، وتجاوُز الأحقاد بإحلال العدل أوَّلًا، ثم بالتآخي تحت ظل مواطنة حاضنة للتنوع.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.