كل دين له منظومته، وتتمثّل أساسًا بالنصوص التي تدوِّن توجيهاته وأحكامه ومعتقداته. وتوجد مشتركات بين الأديان عمومًا، أو بين كل مجموعة منها، وأيضًا توجد خصائص يتميّز بها كل دين عن غيره. والإسلام هو أحد الأديان الكبرى، لامتداد رقعة انتشاره، وكثرة أتباعه، ولِسَعة دلالات نصه القرآني وعمق تأثيره. ولذلك، من المهم دراسته من مختلف جوانبه، ويكفي وجود آلاف الكتب التي تَقرأ ظاهرته، ومع ذلك لا يزال يفسح المجال لمزيد من الدراسات.
أَطرُق هنا ما أسميه بـ”مقطوعات القرآن”، وأقصد بها الجوانب التي منعها القرآن، وقَطَع الطريق أمامها من أن تكون جزءًا من الإسلام، بعد أن كانت معتمَدة في بعض الأديان، أو مسكوتًا عنها على أقل تقدير. ولا أقصد هنا الوصايا الأخلاقية؛ إذ إنها من مشتركات الأديان عمومًا، مثل: تحريم الزنى، وعقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وتحريم الخبائث والظلم. فهي لا تكاد يعدم تحريمها في أي دين، حتى الأديان التي نظر إليها الإسلام باعتبارها وضعية.
القرآن بحسب آياته، جاء ليكون الحلقة الأخيرة من الوحي الإلهي. فالنبي محمد أحد الأنبياء الكرام الذين أرسلهم الله إلى الناس: {قُلْ ما كُنتُ بِدْعًا مِن الرُّسُل} [الأحقاف: 9]. ولذلك، عُني القرآن بقصص الأنبياء السابقين وشرائعهم ومواقف أقوامهم منهم، وقد أعاد بناء المعتقدات والتصورات السابقة التي اعتبرها غير متوافقة مع خطه التوحيدي. فهو -غالبًا- لا ينفي وقوع الحدث ذاته، لكنه يجرده من المعتقدات التي لا تتفق مع توحيد الله. فمَنَع أي معتقد يمكن أن يسدي شيئًا من خصائص الألوهية إلى الخَلق، أو لا يَفْرُق في كَون المخلوق نبيًّا أو مَلَكًا أو بشرًا أو حجرًا أو أي كائن آخر. وقد كان حاسمًا في ذلك، حيث أحال كل الأعمال التي أتى بها الأنبياء -ومنها “المعجزات”- إلى أمر الله وحده، ومَنَع التماثيل والأصنام التي تُعبد من دون الله، وكلَّ ما قد يُتصور منه أي دلالة تخرم مفهوم التوحيد. فكان هذا أوكد المقطوعات القرآنية.
بِناءً عليه، فإنه مَنَع أي تصوُّر ذهني يكيّف الله. فالله لا يشبه أيًّا من مخلوقاته، ولا هي تشبهه: {ليس كَمِثْلِه شَيْءٌ} [الشُّورى: 11]. ولمّا كان العقل لا يَتصور إلا وَفْق ما يكتسب من معلومات تزوده بها حواسه؛ فالله إذًا لا يمكن إدراكه، لأنه لا تصل إليه الحواس: {لا تُدْرِكه الأبصارُ وهو يُدْرك الأبصارَ} [الأنعام: 103].
من المقطوعات نزول الوحي. فلا وحي بعد القرآن، ومحمد خاتم النبيين: {ما كان محمَّدٌ أبَا أحدٍ من رِجَالِكم ولكن رسولَ الله وخاتَمَ النبيِّين} [الأحزاب: 40]. وهذا يعني أنه مَنَع أي معتقد بعده يمكن أن يُنسب إلى الله. وفي المقابل، فتح المجال أمام التدبر العقلي والتفقه في النص القرآني، باعتباره كتاب هداية للعالمين كلهم: {إنَّ هذا القُرآن يَهدِي لِلَّتي هي أقْوَمُ} [الإسراء: 9]. ولمّا كان القرآن -بحسب آياته- كتابًا واضحًا في مقاصده، بيِّنًا في معانيه، ميسَّرًا للذكر: {ولقد يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]؛ فإنَّ حجته في نصه ذاته، وليست من غيره. فقَطَع بذلك خط “المعجزات” الذي رافق بعض الأنبياء الأولين: {وما منَعَنا أن نُرسِل بالآيات إلَّا أن كذَّب بها الأوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
لقد شكّلت الشفاعة في كثير من الأديان معتقَدًا محوريًّا. فقد يَظلم الإنسان أو يُفسد في الأرض، ثم يحتاج إلى من يساعده لتجاوز الهلاك الأخروي إلى النعيم الأبدي. فقَطَع القرآن عليه تلك الواسطة، بعدم جدوى الشفاعة لمن لم يتبع الحق: {يومئذٍ لا تَنفَعُ الشَّفاعةُ إلَّا مَن أَذِن له الرحمنُ ورَضِيَ له قَولًا} [طه: 109]، وعَدَّ نجاة مَن يموت وهو يعمل سوءًا دون توبة منه، مِن الأماني: {ليس بِأمانِيِّكُم ولا أمانِيِّ أهل الكتاب مَن يَعْمل سُوءًا يُجْزَ به ولا يَجِدْ له مِن دُون الله وليًّا ولا نصِيرًا} [النساء: 123].
من مقطوعات القرآن أيضًا، رَفْض الظنِّ مَصدرًا للإيمان، لأن كثيرًا من المعتقدات بُنيت على ظنون، ولم يكن مَصدرها الله. فأوجب القرآنُ اتّباع الدليل من عند الله، وسمَّاه علمًا، واعتَبر ما عداه ظنًّا: {وما يتَّبِعُ أكثرُهُم إلَّا ظنًّا إنَّ الظنَّ لا يُغْنِي من الحقِّ شيئًا} [يونس: 36].
أكتفي هنا بهذه الأمثلة على المقطوعات، لفسح المجال أمام الدارسين/ات لمتابعة بحث الموضوع والنقاش حوله، بغية إثراء النص الديني بتعدُّد وجهات النظر.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.