عملتُ قبل حوالي 12 سنة مندوبة مبيعات لدى إحدى شركات التسويق في لبنان. طلبوا مني ذات مرّة الذهاب إلى سوبرماركت في بيروت، لأقوم بالتسويق لمنتج غذائي "لبناني 100%" –بحسب ما وصفوه لي-. ساعات معدودة، وصَل بعدها المشرف على المندوبات مسرعًا، وطلب منّي المغادرة على الفور قبل قدوم ممثل الشركة التي أقوم بالتسويق لمنتجاتها: "لا يجب أن يراك". سألته: "لماذا؟". أجاب: "غادري الآن، لأنك محجَّبة". عندما قبِلتُ العمل آنذاك، لم أفكّر في السؤال عن ديانة العميل، ولكني قمتُ بذلك بعدما رفضوني باعتباري محجبة حينها! حيث وجدتُ أنّ صاحب الشركة التي تحرص جيّدًا على وضع كلمة "حلال" على جميع منتجاتها، كان مسلمًا. ربّما كانت كلمة "حلال" ترفع -في نظره- نسبة مبيعاته، أكثر من مندوبة المبيعات المحجبة!
أَستذكر هذه الحادثة بعد أن ضجّت أخيرًا مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، بخبر رفض أحد أهم المجمَّعات التجارية تَولِّي شابة محجبة البيعَ على "ستاند" يعود لمتجر أدوات منزليّة. استَنكَر الكثيرون/ات هذا التصرّف (التمييز) الذي أثار موجة غضب عارمة، ودعوات إلى مقاطعة المجمّع التجاري. أمّا على المقلب الآخر، فظهرت أصوات "تتفهّم" موقف إدارة المتجر، التي برّرت قرارها بـ: "الحفاظ على عدم إبراز أي شعار ديني أو حزبي أو سياسي لأي فئة".
ينص "الإعلان بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمَين على أساس الدين أو المعتقد"، الذي اعتمدَته ونشرَته الجمعيّة العامة للأمم المتحدة عام 1981، في مادته الأولى، على أنه: "لكل إنسان الحق في حرية التفكير والوجدان والدين. ويشمل هذا الحق حريّة الإيمان بدين أو بأي معتقد يختاره، وحرية إظهار دينه أو معتقده عن طريق العبادة وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، سواء بمفرده أو مع جماعة، وجهرًا أو سرًّا". أيضًا كرّس الدستورُ اللبناني حريّة المعتقد في المادة 9 منه، والذي يتضمن تعريفها حريّة ارتداء اللباس الديني والرموز الدينيّة.
وعليه، فإنَّ تَصرُّف المجمَّع التجاري وقوانينه الداخليّة، اتَّسَم بالتمييز على أساس الدين والمعتقد، وهو أمر مرفوض لا يمكن تبريره. ثم إني أعي تمامًا وقْعَ هذا الأمر على الشابة التي تعرّضت للظلم بسبب قوانين إقصائيّة. لكن يبقى السؤال: "مِن أيِّ منطلق تضامنَت هذه الأعداد الغفيرة مع الفتاة؟ وعلى أي أساس يأتي تأييدنا أو رفضنا لما قام به المجمَّع التجاري؟ وهل الأصوات التي علت كانت جميعها مناصِرة لحرية الدين والمعتقد؟".
وفي حال كانت الكثير من ردود الفعل من منطلق الإيمان بضرورة احترام الحريات، فهل يقوم هؤلاء الثائرون والثائرات باتخاذ الموقف الدفاعي نفْسِه، عندما تَرفض بعضُ المؤسسات اللامحجَّبات، أو تُعاملهن بإقصائية، أو حتى تقوم بإجبارهن على ارتداء الحجاب عند دخولهن أو عند العمل فيها؟ وهل ترتفع الأصوات نفسها لمناصرة حرية الأشخاص وحقهم في الاختيار والاعتقاد، أم يبررون التمييز حينها؟
كثيرون/ات برأيي ممن غضبوا من أجل الفتاة المحجبة، غضبوا أيضًا ممن قرّرت خلع حجابها يومًا ما، ورفضوا وجود غير المحجَّبة في بعض الأماكن. لماذا؟ أَلِأنهم اعتبروا أنفسهم يناصرون "الصح"؟ وهل موقفهم الداعم أو الرافض لأي قضية، يأتي بحسب وضعها في خانة الصح أم الخطأ؟!
إنَّ مَن يدعم أي قضيّة من منطلق ما هو حلال، أو واجب ديني أو واجب لاديني، قد يحظى بقبولٍ أكثر من هؤلاء الذين يناضلون كل يوم من أجل حقوق الإنسان. نحن نحب مناصرة "الصح" أكثر من "الحق". لذلك، نعاني ازدواجية المواقف.
في مجتمعنا تضع الطائفة، والحزب، والعشيرة، أو حتى رب العمل، أغلب المعايير التي تخدم مصلحتها. فالعديد من المواقف ستتناقض عندما تُمَسُّ تلك المعايير، لا بل ترتدي ثوب الحريات وتخلعه بلحظة. نحن ننادي بقيم حقوق الإنسان "عند اللزوم" فقط.
صاحب العمل الذي يرفض المحجبة أو يَقبلها، ظنًّا منه بأنه يقوم بـ"الصح"، يؤمن بضرورة ذلك للحفاظ على الصورة (Image) للمتجر أو الشركة، وترسيخ الصورة الدينيّة أو اللادينية للمكان. لكن في الحقيقة، لا يَخدم هذا الفعلُ إلّا التعصب الذي يعيش في الأحشاء. لذلك، تبقى حقوق الإنسان المعيار الموضوعي والأساس، لوضع القوانين واتخاذ المواقف الحاضنة للتنوّع.
حصل ما حصل في هذا المجمّع التجاري، وتلك الشركة، وذلك المبنى، وهذه المدرسة. تَضامَنّا بأعلى أصواتنا الافتراضية على مواقع التواصل، لكننا لم نستطع تغيير شيء. لا بل على العكس، ستَظهر العديد من الحالات الأخرى التي تُجاهر بتعصبها ومواقفها الإقصائية، انتقامًا للفتاة المحجبة، أو دعمًا للمجمع الذي رفضها.
تخيفني أخبارُ الطائفية والتمييزُ المتعلّق بحريّة الدين والمعتقد. كثير منها يؤجّج رأيًا عامًّا حول "شأن خاص"، وخيار شخصي مرتبط بالحياة الروحية أو بالإيمان أو عدمه. والنتيجة تتجسّد في إنتاج المزيد من الحجج والبراهين المضلّلة، التي يستخدمها "أولياء الصح" في جلساتهم الخاصة أو خطاباتهم العامة. فليس هناك أجملُ مِن تَبنِّي "الصح" -الذي يجذب عددًا أكبر من الناس-، وليس هناك أصعبُ مِن مناصرة "الحق". فالأوّل نِسبي، والثاني له ميزانه.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.