أدت الإجراءات التي اتُّخذت في جميع أنحاء العالم خلال السنتين الماضيتين للحد من انتشار جائحة كوفيد 19، إلى تفاقم "جائحة خفيَّة"، تمثلت بارتفاع نسب الطلاق والتفكك الأسري أشارت إليه تقارير صحفية؛ ما طرح مرة أخرى ضرورة إلزام المقبلين على الزواج حضورَ برنامج تدريبي تثقيفي، مخطَّط وفْق أسس علمية، يهدف إلى إكسابهم المهارات المساعِدة على إقامة حياة زوجية ناجحة ومستمرة، ويساعدهم على بناء أسرة سعيدة وتَجاوُز الخلافات الزوجية، وتعريفهم بأسس تربية الأولاد السليمة.
كثير من المتخصصين في القضايا الأسرية، يَرون أن من الأسباب الرئيسة لوقوع الطلاق يعود إلى قصور في فهم الحياة الزوجية، وعدم تثقيف الأزواج فيما تعنيه هذه الحياة، وغياب معرفة كل منهم لحقوقه وواجباته. من هنا، كانت ضرورة التثقيف اللازم المُعرّف لمن لم تخبره الحياة بتجاربها بعدُ. فغالبًا "ما يسمى الزواج بالحياة الزوجية، وفِعلًا هي حياة". هي حياة بكل تفاصيلها، لها قواعد مُسيِّرة يجب إدراكها واستشعار أهميتها. هي حياة تَجمع بين نفسَين ينبثق منهما أسرة، وهي حياة تتطلَّب من كلٍّ منهما ملازمة إنسان جديد له حقوق وعليه واجبات. هي حياة جديدة فيها مسؤوليات. فإنْ كانت هذه هي الحياة الزوجية، فكيف يخوض غمارها مَن جَهل أسرارها، وعوامل صمودها في وجه التحديات التي تَكبر مع تطور العصر وتقدُّمه؟ وكيف لهذه الحياة أن تصمد وتستمر ويُحافَظ عليها، والشريكان لا يَعرفان مقاصدها وأهدافها؟
تبدو ظاهرة ارتفاع نسب الطلاق ظاهرة عالمية، لذا، بادرَت بعض الدول إلى تصميم برامج إرشادية، تساعد المقبلين/ات على الزواج على فهم مسؤولياته وأبعاده، ومهارات حل الخلافات وإدارة الأسرة. وقد أصبح يوجد وعْيٌ "إسلامي" بأهمية برامج تحضير المقبلين/ات على الزواج. لكن، تَظهر العشوائية في بعض البلاد العربية، من خلال عدم تنظيم الجهود وتوحيدها، سواءٌ أحُكوميّةً كانت أم صادرة عن منظمات المجتمع المدني، لرعاية مثل هذه البرامج، التي يَغلب عليها أن تكون وليدة مبادرات محلية أو شخصية. من هنا، نطرح الإشكالية الآتية: هل يُجيز الشرع الإسلامي استحداث شرطٍ "جديد" يُضاف إلى شروط الزواج؟ وما مدى مشروعية وضع قانون ينظم الدورة التحضيرية للمقبلين/ات على الزواج، ويجعلها شرطًا "لإتمام عقد الزواج"؟
للهروب من هذه الإشكالية، قامت بعض الدول العربية بجعل الدورات التحضيرية للمقبلين/ات على الزواج اختيارية لا إجبارية، إلا أنه من المهم بحث هذا الأمر إسلاميًا من خلال استحضار أمرَين: مقاصد الشريعة وروحها، وإعمال النظرة المصلحية. ويمكن إجمال آراء الفقهاء في رأيين، الأول منهما: علماء أجازوا للدولة الحق في اشتراط ذلك إنْ كان فيه المصلحة، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بتحقيقه مقاصد الزواج، واتفاقه مع جملة من القواعد الفقهية، حيث يكون للدولة حقُّ إلزام الناس ما هو مباح إنْ ظهَرت المصلحة فيه. الرأي الثاني: قال بعض العلماء إنه لا يجوز للدولة جعْلُه شرطًا "لإتمام عقد الزواج"، إنما هو اختياري ويمكن تشجيع الناس عليه دون إجبار، واعتبروا اشتراطه زيادة على الشروط التي ثبتت بالشرع، ودلالة على عدم إحسان الظن بالله تعالى.
أدعم الرأي الأول، القائل بجواز اشتراط إجراء الدورة التحضيرية باعتبارها شرطًا لإتمام عقد الزواج، لأنها تتفق مع روح الشريعة الإسلامية، وتُحقق بعضًا "من مقاصد الزواج والأسرة"، استنادًا إلى أن النصوص الشرعية تضافرت لتُخبر بإرادة الشارع الحكيم قيامَ علاقة زوجية أساسها المودة والرحمة والسكينة، بقوله تعالى: {ومِنْ آياتِه أنْ خَلَق لكم مِن أنفسكم أزواجًا لِتَسكُنُوا إليها وجعَل بينكم مَودَّة ورحمة} [الروم: 21]. فهذه الآية أشارت إلى مواصفات العلاقة الزوجية الناجحة من سكن ومودة ورحمة، ومِن ثم حددت آلية استمرار الحياة الزوجية بطريقة صحيحة سليمة، وهو ما يُعتبر مقصدًا من مقاصد الشرع الحنيف.
ثم إنّ القول بجواز اشتراط الدورات التدريبية للمقبلين/ات على الزواج، يتفق مع جملة من القواعد الشرعية، منها: قاعدة "الوسائل لها أحكام المقاصد". فالتثقيف المسبق للأزواج هو وسيلة إلى تحقيق غاية مشروعة، هي حفظ تماسك الأسرة وتربية الأولاد تربية سليمة، والوسيلة هنا تأخذ حكم الغاية. ومنها أيضًا: قاعدة "الدفع أَوْلى من الرفع". فإنْ أمكن دفعُ الضرر قبل وقوعه، فهذا أَوْلى وأسهل من رفعه بعد الوقوع.
ختامًا، إن انتقال الإنسان من مرحلة العزوبية إلى مرحلة الزواج، يوجب عليه التزود بالمعرفة، وبالثقافة المؤهلة لنجاح هذه المرحلة، عارفًا "ما عليه وما له"، مستفيدًا "من تجارب الآخرين". أما خوض هذه المرحلة دون إعداد، فهو خوض في المجهول، كمَن يُبْحر بسفينة وهو يجهل قانون الملاحة. فقد ينجح وقد يُخفق، وربما الأخير أقرب إليه من الأول. وما دام قد اتَّضح للدولة أن أحد أسباب انتشار الطلاق في المجتمع، هو نقص الثقافة الزوجية عند المقبلين/ات عليه، وأن الدورات التحضيرية لهم/نّ هي عامل مقلِّل لنسب الطلاق، فلِمَ لا تضع الدولة قانونًا ينظمها ويجعلها متطلَّبًا "إجباريًّا" لإتمام عقد الزواج؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.