لم أتوقع في الحقيقة أن ينال بناء "آيا صوفيا" إعجابي بشدة، عندما قمت بزيارته. تصورت بناءً قديمًا جميلًا كبيرًا، لكن الزيارة الفعلية أثبتت أن للمكان رهبة وهيبة غير متوقعتين بالنسبة إلي، وكأن أرواح بناته وكهنته، والآلاف الآلاف من التراتيل البيزنطية التي ترددت بين حنايا حجارته، ومِثلها أيضًا رفْع المسلمين الأَذان للصلوات الخمس اليومية سنوات طويلة، ووفود ملايين الزوار من مختلف الجنسيات، كلها معًا قد تركت أثرها الجميل حبيس قناطر المكان وقُببه وأيقوناته وزخارفه.
المبنى الحالي هو البناء الثالث للكنيسة الذي تم سنة 537، بعد حريقين أوْدَيا بالبناءَين السابقين. وبعد أكثر من 900 سنة استولى العثمانيون سنة 1453 على القسطنطينية، وحُولت آيا صوفيا باسم السلطان من كنيسة إلى جامع، وقام حكام المدينة الجدد بالعديد من التعديلات والإضافات على المبنى الأصلي في فترات زمنية مختلفة. في سنة 1935 أمر مصطفى كمال أتاتورك -العلمانيُّ التوجه- بتحويل الجامع متحفًا، وبعد سنوات من الأخذ والرد والمطالبات والمطالبات المضادة، تَحول المتحف جامعًا سنة 2020، في حدث أثار الكثير من الجدل بين استياء واستنكار، وبهجة وتأييد.
بمراجعة سريعة للتاريخ بأحقابه المتعددة، يظهر لنا أن سلوك تحويل دُور عبادة المهزوم إلى دور عبادة المنتصر، أمر معتاد ومتوقع في حالات مشابهة، خاصة مع واقع اقتران الدين بالسياسة والسلطة حينها. فيصير تحويل دين المعبد إجراءً ذا مدلولات سياسية لا دينية فقط، وهو الأمر الذي قام به المسيحيون، إذ حولوا العديد من المعابد الوثنية إلى كنائس ومزارات وأديرة، بعضها ما زال مستعملًا بهذه الصورة إلى يومنا هذا. الفرق أنه لا وثنيين اليوم يطالبون بإعادة معابدهم لهم.
في سياق آيا صوفيا، جرى تداول روايات تبدو ضعيفة السند لبعضهم، وتشير إلى شراء السلطان الكنيسة والأراضي المجاورة لها من الإكليروس المسيحي، قبل تحويلها جامعًا، وهي روايات تعتريها -وإنْ صدقت- نقطة ضعف رئيسية. فأي حرية للإكليروس وهم عاجزون عن رفض قبول بيع أحبِّ كنيسة لديهم، لسلطان قوي منتصر احتل مدينتهم بالحديد والنار؟ وهل يجوز الاعتداد بعقد معقود بين سيف ومبخرة؟
يبدو تحويل جامع إلى كنيسة أو كنيسة إلى جامع قبل مئات السنوات، أمرًا مرفوضًا لدى كثيرين/ات، اليوم. لكن محاكمة أحداث الماضي في ضوء قيم اليوم، لا تبدو منصفة أيضًا. فحقوق الإنسان وحرية الدين والمعتقد وتثمين التنوع، كلها قيم ومفاهيم حديثة نسبيًّا، حتى أنها لا تبدو بالممارسة محل إجماع عالمي في وقتنا الحاضر للأسف.
يبقى استياءُ فئة من المسيحيين مفهومًا، وابتهاجُ بعض من المسلمين متوقعًا. ولكن، ما المزعج أو المرفوض حقًّا في إعادة المبنى إلى جامع اليوم، خاصة إن أخذنا بعين الاعتبار وجهة نظر ناقدة، لا تستند إلى الإيمان بهذا الدين أو ذاك لتؤسس رأيها؟
لو استمرت آيا صوفيا إلى اليوم جامعًا منذ جرى تحويلها قبل قرون، لكان شأنها شأن العديد من الكنائس التي حولت جوامع، وشأن الجوامع التي حولت كنائس منذ القديم، واعتُبر الأمر استمرارًا لواقع تاريخي حَكمته قيم قديمة. ما يبدو مرفوضًا -بعيدًا عن المشاعر الدينية- في حالة آيا صوفيا اليوم، هو استعادة جدل التحويل وآثار فِعله في القرن الحادي والعشرين ذي القيم المختلفة عن قيم الماضي، وهي استعادة تبدو إحياءً لقيم الماضي وصراعاته التي أُعتقد أنها ذهبت إلى غير رجعة، واحتفالًا بها على أنها قوة دين وانتصار له، وهزيمة للآخر. وهو أمر مرفوض، سواء تَمثل بتحويل كنيسة إلى جامع أو العكس. الأمر هو نفسه تمامًا، بغض النظر عن هوية المكان الدينية مسيحيًّا كان أو إسلاميًّا، أو إلى أي دين آخر انتمى.
سيبدو مثيرًا للاستهجان وربما مضحكًا اليوم، لو أن دولة ما دعت إلى حرب دينية، وألبست فيها المقاتلين بزَّة مزخرفة برموز دينية، ثم انطلقت تحت بيارق دينية للسيطرة على أراضي دولة أخرى. لم يكن هذا غريبًا في التاريخ القديم، ولكنه يظهر متعارضًا مع قيم العصر الحالي وقوانينه. الأمر نفسه ينسحب على الممارسات التي رافقت تلك الحروب الماضية، حين كانت للحروب عناوين دينية مباشرة. فالمسيحيون خاضوا في التاريخ حروبًا هجومية ودفاعية باسم الدين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسلمين، ولكن هذا كله صار من الماضي، أو يفترض فيه أن يكون كذلك. وكثير من الدول المتعصبة دينيًّا في الماضي، تحولت دولًا علمانية، تحترم كل مكوناتها على حد سواء، وتضمن حقوقها على أرضية المواطنة. وقد خطَت البشرية على الصعيد الديني خطوات جريئة، نحو تجاوُز الماضي الدامي، والتلاقي حول قيم دينية إنسانية جامعة.
وعليه، يبدو الاحتفاء اليوم بحدث تحويل كنيسة (في الأصل) إلى جامع، إصرارًا في غير محله على سردية صراع ديني، خارجة عن الزمن الحاضر، تهدم ولا تبني، وتستثير عواطف ونزوات وأحقادًا، ينبغي -بدل تحفيزها- العمل على تفكيكها، والارتقاء بها إلى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه، بعيدًا عن صراعات العصور الوسطى وما قبلها، وعن قيمها أيضًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.