سعى القرآن إلى تصحيح كثير من التصوُّرات الخاطئة والسائدة بين أَتباع الأديان، وحثَّ الناس على الاعتبار بتجارب الأمم الأخرى، وتَجنُّب الوقوع فيما وقعوا فيه من أخطاء. ومِن هذا المنطلق، أكَّد القرآن أنَّ الأصل في العلاقة بين أهل الكتاب هو التصديق والتكميل، واستعرض الواقع العملي لهذه العلاقة، التي انحدرَت بعيدًا عن ذلك الأصل وأصبحَت مأزومة، وتُسيطر عليها نزَعات الإقصاء والإلغاء. وأوضحُ مثال لذلك قوله تعالى: {وقالت اليهودُ ليستِ النَّصارىٰ علىٰ شيءٍ وقالتِ النَّصارىٰ ليستِ اليهودُ علىٰ شيءٍ وهم يتلُون الكتابَ كذَلكَ قالَ الَّذينَ لا يعلمُونَ مثلَ قولهم فاللَّهُ يحكُمُ بينهم يومَ القيامةِ فيمَا كانُوا فيهِ يختلِفُونَ} [البقرة: 113].
عند الرجوع إلى كُتب التفسير، نجدها تذكر أن الآية قد نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران، عندما وفَدُوا إلى المدينة في زمن الرسول. ولكن دلالات المعنى تتجاوز خصوصية أسباب النزول، لتَفتح أمامنا مجالًا أوسع للحوار، حول مشكلة عامَّة وعميقة يقع فيها كثير من أتباع الأديان، تتمثَّل برفضهم الآخر ونَفْي أيِّ صلة له بالدِّين والإيمان. وقد بدأت الآية بذكر موقف اليهود، لِتُشعر القارئ بأنهم هُم الذين بدأوا في الحكم على أتباع المسيح بالضلال، والخروج عن شريعة موسى. ثم أعقَب ذلك وُقوع النصارى في المشكلة ذاتها، عندما حكَموا على اليهود بالحكم نفسه.
إنَّ تكذيب أهل الكتاب بعضَهم بعضًا، لا يُمثِّل فرصة سانحة للحُكم بضلالهم، وإنتاج أنموذج ثالث من الإلغاء والإقصاء. فمِن غير الممكن أن تُعالَج المشكلة من خلال إعادة إنتاجها! والآية تنتقد مَنطق "المعاملة بالمثل" في تكفير المخالفين وإقصائهم، مَهْما كانت أسماؤهم وتبريراتهم. وهنا، يتجلَّى لنا إنصاف القرآن، ورفضه الانجرار وراء تكفير أهل الكتاب، حتى وإنْ كفّر بعضُهم بعضًا. فالحُكم بالضلال والهلاك، الذي أطلقه بعض أهل الكتاب تجاه بعضهم بعضًا، لم يُقرّه القرآن ولم يَقْبله؛ وإنما عالجه من خلال إرجاع الأمر إلى الله وحده، الذي يَحكم على عقائد الناس ومصائرهم يوم القيامة: {فاللَّهُ يحكُمُ بينهُم يومَ القيامَةِ فيمَا كانُوا فيهِ يختلفُونَ}.
نَلحظ هنا صلة وثيقة بين الاستئثار بالحق والنجاة من جهة، والحُكم بالكفر والضلال على الآخر من جهة ثانية. وتتوضَّح هذه الصلة من خلال الآيتَين السابقتَين للآية 113 من سورة البقرة، حيث تتحدث الأولى بِمَقولة احتكار النجاة، وقَصْرها على أَتْباع ملّة واحدة: {وقالُوا لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا من كانَ هودًا أو نصارَىٰ تلكَ أمَانيُّهم قُلْ هاتُوا بُرهَانكُم إن كنتُم صادقينَ} [البقرة: 111]. وتنتقد الآية الثانية هذه المقولة وتَردُّ عليها: {بلَىٰ من أسلَمَ وجههُ لِلَّهِ وهُو محسنٌ فلهُ أجرُهُ عندَ ربّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنُونَ} [البقرة: 112]. ومعنى ذلك كما يقول صاحب تفسير المنار: "أيْ بَلَى إنه يَدخلها مَن لم يكن هُودًا ولا نصارى؛ لأن رحمة الله ليست خاصة بشعب دون شعب، وإنما هي مبذولة لكلِّ مَن يَطلبها ويعمل لها عملها" (محمد رشيد رضا، تفسير المنار).
لا نستغرب كثيرًا، عندما نجد أكثر المفسرين يذهبون إلى أن المقصود بـ {الذين لا يَعْلمون}، هُم مُشْركو العرب، أو أُمم كانت قبل اليهود والنصارى. ولكن الرَّازي يَلْفت إلى أن المسلمين أنفسهم، قد وقع بينهم مثل هذا التفكير الإقصائي، الذي انتقده القرآن لدى اليهود والنصارى، والذي يتمثَّل بتكفير بعضهم بعضًا، بقوله: "واعْلَم أن هذه الواقعة بِعَينها قد وقعت في أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم. فإنّ كلَّ طائفة تُكفِّر الأخرى مع اتِّفاقهم على تلاوة القرآن" (الرازي، التفسير الكبير). ولعلَّ المتأمِّل في واقعنا المعاصر، وما آل إليه التوظيف السياسي للطائفية بين السُّنّة والشيعة، يجد إعادة إنتاج المشكلة ذاتها وَفْق صيغة جديدة، أقتبِسُها من القرآن: وقالت السُّنَّة ليست الشِّيعة على شيء، وقالت الشيعة ليست السُّنّة على شيء، وهُم يَتْلُون الكتاب!
لا بد أنْ نُدرك أنَّ المسلمين هُم أهل كتاب أيضًا، ويُتوقَّع منهم أن يقعوا في ذات الأخطاء، التي وقع فيها مَن سبَقهم من أهل الكتاب. ولعلَّ استثناء كثير أَتْباع الإسلام من معنى {الذين لا يَعْلمون}، هو دليل على وجود ذات المشكلة. فالمفسِّرون الذين انطلقوا من تصوُّرات مقدَّمة، لم يتسَنَّ لهم اكتشاف المعنى الأشمل للنص، الذي يضع الناس جميعًا على مِهاد واحد، أمام السُّنن الاجتماعية والعدالة الإلهية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.