هل تَعرف ما معنى المغفرة؟ إنَّها قرار تتَّخذه بنسيان ألمٍ أذاقك إيَّاه أحدُهم. المغفرة تعني التوقُّف عن الشعور بالغضب، من ذلك الشخص الذي أساء إليك. لكن، بعكس ما نعتقد: "الأصعبُ هو أن نَغفر لِمَن نُحبُّ". بهذه الجملة، يبدأ الممثل الأميركي توم هانكس فيلمه "A Beautiful Day in the Neighborhood". وبرأيي، الجملة مَدخل مناسب إلى الحديث في قيمة الغفران. فهل في الإمكان أن نَغفر دومًا؟ وهل في إعلاء قيمة الغفران خيانة للكثيرين في العالم اليوم، الذين ناضَلوا من أجل محاسَبة أنظمة قَتلَت، أو أجهزة عذَّبَت، أو أيادٍ نَهبَت قُوت الشعوب؟
في اللغة، يعني الغفرانُ العفوَ والمسامحة. وفي قاموس المعاني إضافةٌ مهمَّة، إلى أنَّ معنى غفر عنه/له ذنْبَه: ستَرَه وعفا عنه. وقد يَرقَى الغفران إلى أبعد من ذلك، حين يَطلب المستَغفِرُ من الله أن يعفو عمّن أساء إليه أيضًا ويَغفر له.
لقد تحدثت الأديان الإبراهيمية، بقيمة الغفران والمغفرة، مع اختلاف في تفاصيل ما يمكن غفرانه، وكيف. واجتماعيًّا، قد يأتي الغفران بعد مَواسم خذلان كثيرة، وتَعاقُب مَظالم على الفرد أو المجموعة، وهذا هو الحيِّز الذي أريدُ التحدث فيه. وقد يكُون الغفران مثلما أشار إليه توم هانكس في فيلمه "قرار صعب"، لكنَّه عادةً ما يأتي بعد مرحلة إدراك أنَّ المغفرة ضرورية، ليُواصل الفرد حياته بسلام، سواءٌ طلَب المغفرة "لِمُذنِب" أمْ لا. أيضًا الغياب يعلِّمنا نعمة الغفران، حين نَنْفصل عمَّن أساء إلينا، ونتَّكئ على ثقل صلواتنا، ونمضي نحو قدَرِنا، وربّما نُسامح بقَدْر الظُّلم الواقع علينا.
أُخبِركم بهذا، لأني جرَّبتُه بالحقيقة، وهو مُمْكن. ولستُ في صَدد المحاضرة في أمْرٍ هو في عِداد الأوتوبيا (المثاليَّة). ففي منْح الغفران، راحةٌ نفسية وقوَّة داخلية وصفاء ذهنيّ أيضًا. أجِدُ بعدها أبوابًا كثيرة قد فُتحت أمامي فجأة، وقد تكُون مكافأةً ربَّانيَّة، وأنا مؤمنةٌ بهذا وأُردِّده في قرارة نفسي. آخَرون يُسمُّون ذلك "طاقة إيجابيّة"، استدْعَتها إيجابيَّةُ الغفران، مِثلما يشرحها بعض مُتخصِّصِي ما يسمَّى عِلم الطاقة البشرية.
أمّا الغفران الذي يمنحه بعضُهم لِآخرين أساؤوا لهم، فلا يمْكن أن يتفضَّل به ضحايا المظالم الكبرى، وأقصد بها المَجازر والتصفيات العِرقيَّة. فهل تَغفر أُسَرُ الضحايا لِمَن قَتل أبناءَها؟ وهل يجوز للجَلّاد طلبُ المغفرة في هذه الحالة، حتى ولو اعترف بذنبه؟ فمثلًا: ذلك القاتل الذي أمَر بقتل الآلاف في مجزرة "سربرنيتشا"، هل يجوز أن تُقْبل مغفرته؟
الإجابة قدَّمها المجتمع الدُّوَلي، حين أنشأ المحكمةَ الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة عام 1993 في لاهاي، قبل نهاية الحرب في البوسنة والهرسك. فاعتَقلت المجموعةُ الدولية -بتَظافُر جهودها- أبرز جنرالات الحرب، وقدَّمَتهم على مدى سنوات للمحاكمة العلنيَّة أمام أنظار العالم، واعتبرَت ما اقترفوه "جرائم ضد الإنسانية". فكانت أوَّلُ محاكمة بعد محاكمة النازيِّين في نورنبيرغ الألمانية عام 1945، بعد سقوط النازية. فخُصِّصَت المحاكمة لسماع شهادات أُسَرِ الضحايا على: القتل الجماعي، والحصار، والتطهير العِرقيّ، والاغتصاب، وغيرها من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. وفي تلك المحاكمة، سمِعَت الأُسَر بعضَ مَن شاركوا في المجزرة، وهم يضحكون (مِثل: دوشان تاديتش). لا، لم يَطلبوا المغفرة.
في عام 2011، جرَت محاكمة أربعة قادة في "نظام الخمير الحُمْر" في كمبوديا، بتهمة الإبادة الجماعية، بعد مرور 30 عامًا على تلك الجريمة. ودولٌ أخرى مثل جنوب أفريقيا، اختارت الصفح والمغفرة بدلًا عن محاكمة رموز نظام الفصل العنصري "الأبرثايد". فكانت فكرة الصفح هناك مقترنة ببناء المستقبل، وبَلورة فكرة التعايش المشترك بين البِيض والسُّود، بعد عقود من المَظالم والتمييز العنصري.
الغفران ممْكن، وأنا بصفتي فردًا أمنَحُك مغفرتي. لكن، لا أستطيع أن أطلب من شعبي، التوقف عن محاكمة مَن تَورَّطوا طَوال عقود بالتعذيب مثلًا. فالمحاسبة تكُون حسب فَدْح الجُرم، وهذا الأمر يرتِّبه ضمير الإنسانية، قبْل أن يُقنِّنه القانون الدولي. ولا مثاليَّة في الغفران، ولا جُبْن فيها، بعكس ما يزعم بعضهم بقولهم: إنَّ مَنْحَك الغفران للآخر، سبَبُه عجزُك عن الانتقام.
في النهاية، أقُول لكلِّ مَن يحاول أن يتخطَّى مرحلة الغضب ممَّن أساء إليه، وأن يتمكّن من القدرة على منحه المغفرة: رَتِّبِ الابتسامات على رفوف ذاكرتك، وتذكَّرِ الأصدقاء، وتذكَّرْ مَن أحسن إليك، ولا تندم على عطاء قدَّمتَه. أسِّسْ للمستقبل بهدوء، ثمَّ امْضِ ولا تلتفتْ.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.