قبل أسابيع، أصدرت مؤسسة سمير قصير (مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية "سكايز")، بالشراكة مع معهد المواطنة وإدارة التنوع في مؤسسة أديان، تقرير "رصد التغطية الإعلامية لقضايا التنوّع في الإعلام اللبناني والسوري والعراقي"، جَمَع خلال فترة امتدت على أسبوعين الموادَّ الإعلامية التي نشرتها أو بثتها وسائل إعلامية مختارة في كل بلد من البلدان الثلاثة، وحلل نتائج هذا الجمع كمِّيًّا ونوعيًّا مستخلصًا "كم يساهم الإعلام في كل من هذه البلدان في مقاربة إيجابية للتنوع".
في جانب واحد من جوانب التقرير، كان هناك تحديد للرسالة التي تَصِل المتلقي من خلال المواد الإعلامية، وكانت النتائج مؤسفة جدًّا. فالمواد التي حملت رسالة أن "الآخر أو التنوع هما مصدر تهديد"، شكلت تقريبًا نصف المواد المشمولة في الدراسة اللبنانية، وما نِسْبته 85% في تلك السورية، أما العراقية فـ 44%.
التقرير تناول هذه النتائج في تحليله مفسِّرًا وموضحًا، ومقدِّمًا للقارئ فهمًا ولو جزئيًّا لسبب هذه النسب المرتفعة، التي تشير إلى خطورة الوضع بين مكونات البلد الواحد. فلبنان يشهد صراعًا سياسيًّا بات مزمنًا، وسوريا باتت مضرب مثل عالمي في سوء الحال وانتشار العنف؛ أما العراق فهو لم يشهد استقرارًا حقيقيًّا منذ سنوات طويلة، والتجاذبان الدولي والإقليمي لهما تأثيرهما السلبي المباشر في البلدان الثلاثة؛ ما قد يدفع القارئ إلى اليأس من استمرار عيش مكونات هذه المجتمعات معًا، وطَرْح السؤال حول مستقبل العلاقة بين هذه المكونات.
فيما يختص بالحالة السورية بوجه خاص، بلغت الأمور حدًّا بات معها الشكُّ عميقًا في استمرارية عيش مكونات هذا البلد معًا في السنوات المقبلة. فأَنْ تَنقُل وسائلُ إعلامية محلية بديلة وغير رسمية في غالبيتها، موادَّ تَدخل بها كل بيت لتقول: "احذر جارك! صديقك! زميلك!.. هو مصدر تهديد، ويشكل خطرًا عليك وعلى جماعتك"، أمرٌ لا بد من التوقف عنده، والبحث في أسباب حصوله، ووسائل تلافيه.
لا يمكن رد المسؤولية عن هذه الحالة، إلى منهجية عمل بعض الوسائل الإعلامية وسياستها التحريرية ولغتها فقط؛ إذ يبقى ما هو خارج عن إرادة هذه الوسائل، أي سوء الواقع نفسه. فهذه الوسائل قد تكون بالغت هنا أو أساءت استعمال وصفٍ هناك، لكن الأصل أن واقع العيش بين مكونات المجتمع السوري أمسى بالغ السوء على الصعيدين الطائفي والإثني. يترافق هذا الجو التصعيدي، مع كلام رسمي متكرر عن مجتمع سوري صحي ومتجانس وأكثر صفاء. ومع غلبة لغة السلاح على أي لغة أخرى، يمسي هذا الشعور بالتهديد تبريرًا وتمهيدًا، ليس فقط لإلغاء العيش مع الآخر، بل أيضًا لإلغاء الآخر نفسه.
الكلام عن الآخر كمصدر تهديد، يفضي إلى الحديث عن دور الآخر، دور كل مكون من المكونات، كأفراد ومجموعات في المجتمع السوري، وكمدخل إلى تبرير وجود، أو إلغاء وجود هذا المكون أو ذاك. وفي هذا السياق يقول الأستاذ وائل خير في دليله النظري والتطبيقي لحقوق الإنسان، إن الدور يبرر وجود النباتات والأشياء لا الإنسان، فما يحمي الشجرة هو قدرتها على الإتيان بالثمار وإلا لَتخلَّص منها المزارع، "غير أن للإنسان حكمًا آخر، لا يَشترط لوجوده دورًا يقوم به... يبقى له الحق بالوجود، إذ إن وجوده يبرر وجوده بالاستقلال عن أي دور له".
إذن، رغم المأزق العميق شديد العنف الحاصل، وتفرُّق مكونات المجتمع السوري متوزعين على "جبهات" مختلفة، لا يمكن تبرير إلغاء الآخر بسَلْبه حقه في الحياة والكرامة الإنسانية، عبر السؤال عن دوره ومبرر وجوده، والكلام عن الآخر كتهديد، والسعي نحو مجتمع "أكثر صفاءً".
من جهة أخرى، واقع الحال اليوم وخلال السنوات الأخيرة الماضية، أن القتل والإلغاء، نفيًا ولجوءًا وتهميشًا، هما حقيقتان ماثلتان أمامنا لا بد من التعامل معهما. وإنْ كان الشعور بأن الآخر مصدر تهديد يصيب "العيش معًا" في مقتل، فإن إزالة أسباب هذا الشعور هي المدخل إلى مسيرة اعتبار التنوع غنًى.
من خلال بعض التجارب السابقة للحروب والصراعات الأهلية، ومجراها وخواتيمها وما بعدها، يمكن استخلاص أهمية العمل على نزع الأسباب الدافعة إلى العنف، أيْ معالجة الأسباب لا الأعراض. فإخماد العنف دون معالجة أسبابه، يعني أنه غالبًا سيتجدد في فرصة مقبلة. ومع هذه المعالجة، أو من ضمنها، السعي نحو تحقيق العدالة لكل مَن تضرر. فالتعامي عن حقيقة ضرورة العدالة كشرط لتحقيق الكرامة البشرية، يبدو غير أخلاقي، كما أنه غير مُجدٍ. فلا يمكن -ولو جرى إخماد العنف- أن يؤدي دون عدالة، إلى نتائج صحية على المدَيَيْن المتوسط والبعيد.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.