عندما تقرأ سيرة حياة الآخرين من مختلف الثقافات، تجد أننا هنا في منطقتنا العربية، نكاد نخلو من شخصية شبيهة مثلًا بالمهاتما غاندي، أو نيلسون مانديلا، خاصة مع التحولات التي طرأت بعد عام 2011، أي بعد مرحلة ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، التي أُجهضت في غالبها، عدا ثورة تونس. ولهذا، فإننا نتساءل هل كان العالم العربي اليوم، في حاجة إلى عمليّة إنقاذ، أم إلى شخصية تُخرجه من حال الخرف السياسي. فحتى الاحتفال بيوم عالمي لشخصية عربية مؤثرة، ما زال غائبًا عن المشهد الدولي. فليس هناك يوم مِثل اليوم العالمي لغاندي، بالنسبة إلينا في المنطقة العربية.
عند الحديث بغاندي، لا يمكن أن نُغفل دوره الأول والأهم في الحركات السِّلمية، التي تنبذ العنف والسلاح، والتي تسعى إلى تحقيق الحرية والحقوق المدنية. ولذلك، في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في تاريخ 15 حزيران/يونيو 2007، قرروا أن يؤسِّسوا يومًا دوليًّا لِلَّاعنف، واختاروا حينها ذكرى ميلاد المفكر الزعيم الهندي "غاندي"، للاحتفال بهذا اليوم. ومنذ ذلك الحين، أصبح الثاني من تشرين الأول/أكتوبر من كلِّ عام، هو "اليوم الدولي لِلَّاعنف"، لتأكيد ثقافة السلام والتسامح.
لكن، مِثل هذه الشخصية، هل هي موجودة بالفعل في عالمنا العربي؟ وهل تعكس حال جيل أم جيلَين من الناس، يبحثون عن مُلْهم يقود إلى تغيير لا يخدم المصالح الغربية والإسرائيلية في المنطقة؟ أسئلة كثيرة تدور، في وقت تَحوَّل فيه العدوُّ الصهيوني إلى صديق لأنظمة عربية، لا تكترث كثيرًا لِحال شعوبها، ولا لِحال الإنسان، ولا لِحال التعددية بكافة أشكالها، ضاربةً بِكلِّ ناقدِيها عُرْض الحائط، مستمرّة في عذابات كلِّ مَن يختلف معها.
في كلِّ مجتمع عربي، هناك الكثير من قصص العقاب وصوره المختلفة، التي تعكس حجم العذاب الذي عايشته شعوب المنطقة العربية، عبر مراحل زمنية مختلفة، من الخليج إلى المحيط، ومن المنامة إلى الرباط، وُصولًا إلى المرحلة الحالية. ويكفي أن تقرأ ما كتبه الروائي المغربي "الطاهر بنجلون" في "العقاب"، لتفهم كمية شحنات الألم والقلق وغياب الرحمة، التي يعيشها المواطن العربي من أجل قليل من الديمقراطية، وقليل من الحرية، وقليل من التعددية السياسية، وقليل من التعددية الإعلامية.
لكن، كيف يفسِّر بنجلون "العقاب"، ونحن أبناء جيل بدا يَهرم، لكنه ما زال يبحث عن شخصية بإيجابيّاتها وسلبيّاتها، مثال غاندي الذي لم يكن مَلاكًا أيضًا، ونفس الأمر مع مانديلا. يقول بنجلون: "عُوقِبتُ، لأنني تظاهرتُ، بهدوء، سلميًّا، من أجل قليل من الديمقراطية. لمدة شهور، لم أكن سوى رقم تسجيل، الرقم 10366. ذات يوم، استرجعتُ حريتي، بعد أن كنتُ قد فقدتُ الأمل في ذلك. تمكَّنتُ أخيرًا، مثلما كنتُ أَحلم، من أن أحبّ، وأسافر، وأَكتب وأنشر مؤلفات عديدة. غير أن كتابة "العقاب"، والجرأة على الرجوع إلى تلك الحكاية، والعثور على كلماتها، تَطلَّب مني ما يناهز الخمسين عامًا".
حكاية بنجلون تكلَّمَت عن سيرة أربعة وتسعين طالبًا، وهو كان من بينهم. سُجنوا جميعًا مدة تسعة عشر شهرًا عقابًا لهم على التظاهر سلميًّا في شوارع المدن المغربية الكبيرة، في مارس/آذار 1965. ويجد الطلبة أنفسَهم مسجونين داخل ثكنات، بدعوى الخدمة العسكرية، مكلَّفِين بما يُعرف بـ"إعادة التربية". ولكن، واقعيًّا كان لأجل إذلالهم. لم يَنتهِ هذا العذاب إلّا في 10 يوليو/تموز 1971، ثم فُكَّ أَسْرُهم من دون أيِّ تفسير.
نفسُ المشهد تكرَّر ويتكرر كلَّ يوم، في أكثر من بلد عربي. فما الذي تَغيَّر؟ ارتفعت وتيرة القمع، فارتفع معدَّل الخوف أمام أنظمة سياسية، لا تعترف بالديمقراطية ولا بالحرية ولا بالتعددية، وهو ما يَدفع إلى تشكيل رأي عامّ تنطلق آراؤُه من مَواقع إعلام مُوجَّه، وخوفٍ من إبداء الرأي. ولهذا، فإن مجموعة من هذه العوامل، تقود إلى غياب هذه الشخصية والقضاء عليها عبر وسائل عدة، في ظلِّ استمرار مشهد عربي غابت عنه الرحمة!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.