كشَف الانتشار العالميُّ المُطَّرِد لمرض كورونا المستجِدّ، عن الوجه الآخر للعولمة، التي لا شك أنّها تَحمل إيجابيَّات عديدة، لكنها أيضًا مَصدر الكثير من التهديدات، حيث تُواجِه البشريَّةُ -بموازاة مع عولمة الاقتصاد والمعلومات-، عولمةَ الأمراض والفيروسات العابرة للحدود. فدخلَت الإنسانية مرحلةً جديدة من الترابط، وأصبحت مَقولة المصير المشترك واقعًا يزداد تجسيدًا يومًا بعد يوم.
كشفَت مواقفُ بعض الأديان أيضًا، عن ولادة نمط جديد من الوعي الديني، مرتبط بالإنسانية المشتركة بين المؤمنين/ات. فشهدنا في بداية تَفشِّي المرض في العالم الإسلامي، وبموازاة مع نظرية المؤامرة، خطاباتٍ عديدةً مرتبطة بنظرية العقاب أو التدخُّل الإلهي، التي ترى أنَّ الله سلَّط المرض على "المَلاحدة الشُّيوعيِّين البوذيِّين"، بسبب اضطهادهم للمسلمين. لكن المرض سرعان ما بدأ يجتاح العالم كُلَّه، ويَفتك بالمسلمين أيضًا.
بدأت هذه الخطابات الدينية بالتراجع تدريجيًّا، مع الوعي بأنَّ ثَمَّة شيئًا مشترَكًا جديدًا بدأ يجمع البشر. فأصبحت الأديان تَكشف تدريجيًّا عن أنماط سلوك متشابهة، أيْ عن إنسانيَّتها المشتركة، إذْ تَوجَّه المؤمنون/ات إلى "خالقهم"، أو إلى المبدأ الأسمى الذي يرعى العالم والكائنات، كي يشملهم برحمته أو بحكمته. فدعا العديد من المسلمين/ات -على مواقع التواصل الاجتماعي- إلى صلاة جماعية تَضرُّعًا لله، كي يرفع الوباء ويشمل البشرية برحمته، ودعا عدد كبير من المسيحيين/ات عبْر العالم إلى يوم صلاة عالميٍّ، من أجل التوجُّه إلى الله كي يرأف بمخلوقاته، في حين نظَّم شاماناتُ الطَّاوِيَة طقوسَ "تطهير الأرض" من هذا المرض الفتَّاك.
بدأت الخصوصيات الدينية تتراجع، عندما بدأ تأثير المرض وأعراض الخوف الجماعي والارتياع، يجتاح المؤمنين/ات داخل فضاءات العبادة، بل حتى الأماكن المقدَّسة، التي بدأت تَفقد "حصانتها"، وتظهر هشاشتها الإنسانية. فالكثير من الكنائس قامت بإلغاء القُدَّاس أو تغيير الطُّقوس، وقرَّرَت المملكة العربية السعودية تعليق الزيارات الدينية لمكَّة والمدينة، في حين قامت إيران بإلغاء صلاة الجمعة في مُدنها، وأقْدَمت السلطات العراقية على إغلاق ضريح الإمام عليٍّ. وقد ثار نقاش في مواقع التواصل الاجتماعي، حول شرعيَّة منع صلاة الجمعة، أو نظام طَقْس التناول في بعض الكنائس؛ ما كشف حالة تفكير ديني ساذج مشترك بين الأديان، مبنيٍّ على فكرة كَون بعض الممارسات -بفضل قدسيَّتها- تبقى بِمَنْأًى عن هذا الشر الذي يجتاح العالم.
بدأت تترسخ تدريجيًّا قناعة مهمَّة لدى المؤمنين/ات في العالم كلِّه، ليس فقط بالمصير المشترك الذي تَفرضه علينا إنسانيَّتنا، بل أيضًا بضرورة العمل المشترك لتَجاوُز هذه المحنة الكونية. فأصبح ما تعتبره المجتمعات الحديثة أهمَّ إنجازاتها (أيِ العولمة التي جعلت من العالم "قرية صغيرة")، هو أيضًا مَصدر هشاشتها، وبدأ يُطرح سؤال حول كَونِنا نعيش بداية نهاية العولمة والارتداد نحو الانعزالية، أمْ لا.
في هذا السياق، ثَمَّة نظرية علمية وفلسفية، قد تسمح لنا بفهم هذا التعقيد في العلاقات الإنسانية في سياق العولمة -حيث إنَّ وباء كورونا لا يزال في إحدى أُولى تجلِّيَاته وأكثرِها بساطة-، ألَا وهي نظرية "تأثير الفراشة" (Effet Papillon)، والتي تَعني قدرةَ الأحداث الصغيرة على إنتاج كوارث عالمية، عبْر فاعل تَسلسُلي، بحيث -كما يقول فيليب ميريلز-: "تؤدي رفْرَفة أجنحة فراشة في البرازيل، إلى إعصار في ولاية تكساس". فأصبح العالم مترابطًا؛ إذ إنَّ أحداثًا وظواهر مرتبطة بمنطقة جغرافية، سرعان ما تمتدُّ إلى العالم كلِّه.
قد تستطيع البشرية تَجاوُز محنة هذا الوباء، لكن الحقيقة هي أنَّ الترابط والمصير المشترك للإنسانية، أصبح حقيقة "علميّة". لكني أعتقد أنَّ الدرس الآخَر الذي يجب أن نستخلصه، هو المسؤولية الإنسانية المشتركة؛ ليس فقط بسبب الامتداد الجغرافي والكمِّيِّ للأوبئة، بل أيضًا بسبب الترابط بين أحداث أو ظواهر مختلفة، حيث مَآسٍ كبيرةٌ للبشرية ابتدأت من نقطة لم نُعِرْها اهتمامًا. لهذا، فإنَّ الاستغلال والحَيف اللَّذَيْن يمارَسانِ في العديد من دول العالم "المتخلِّف"، يمْكن أن تكُون لهما تأثيرات مدمِّرة في العالم "المتقدِّم"، بسبب لامُبالاته ولاإنسانيَّته. أيضًا يمْكن لتدمير البيئة في منطقة ما من العالم، أن يؤدِّي إلى تدمير البيئة العالمية كلِّها.
الأديان غدَت مَعنيَّة بهذا العالم الجديد، وأصبحت أفعالنا وأقوالنا كمؤمنين/ات، لها تأثيرات مُعَولمة تتجاوز الحدود الجغرافية حيث نعيش. لذا، يجب علينا أن نَدخل مرحلة المسؤولية الكونية. ولْنتذكَّر دائمًا أنَّ رفرفة الفراشة قد تَصنع جحيمًا، كما قد تَصنع عالَمًا خيِّرًا وآمِنًا، والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.