الرجوع

أيلول الثَّورة وأيلول الخَيبة

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٩/٢٣ |

هـ ١٤٤١/٠١/٢٤

للخريف شجَنٌ يشبه دواخلنا المتساقطة، نُعِيد فيه ترتيب أولويَّاتنا الَّتي خطَّطنا لها في بداية العام، نشطب أهدافًا ونصحِّح أهدافًا أخرى، وكأنَّنا في تَماهٍ مع الطَّبيعة الَّتي تَشْرع في تقشير نفسها، ثمَّ تبدأ اغتسالها الدَّاخلي.

اِرتبط شهر أيلول/سبتمبر في المِخيال العربيِّ المعاصر بالنَّكَسات، بدايةً من أيلول/سبتمبر الأسود، ومرورًا بالهزائم الأخرى، ثمّ بهجمات 11 أيلول/سبتمبر، الَّتي لا يزال العرب يدفعون ثمنها اليوم تقسيماتٍ وحروبًا وتشريدًا أيضًا.

في شهر أيلول/سبتمبر من عامنا الحاليّ 2019، أحاول -قبل أن يُلَملم الشَّهر نفسه ويرحل- أن أَعُدَّ مكاسبه وخسائره، حيث جاء الشَّهر مُحمّلًا بأحداث سياسيَّة هامَّة، في منطقة الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا، دون أنْ أدخل في تفاصيل ما يَحدث في بلاد أخرى. سأتحدَّث بتونس بلدي، حيث جرت الانتخابات الرِّئاسيَّة قبل نحو أسبوع، لأخبركم كيف تتصدَّع التَّجارِب الشَّخصيَّة، وتتأثَّر بالفعل السِّياسيِّ مباشرة.

رَغْم العزوف الكبير عن الانتخابات الرِّئاسيَّة، لا سيَّما في صفوف الشَّباب/الشّابّات، لم تتعطَّل ماكينة الدِّيمقراطيَّة ولم تصدأ في تونس. وأيًّا كانت النَّتيجة الَّتي أسفر عنها الدَّور الأوَّل، فهي اختيار النَّاخبين/ات الذين شاؤوا معاقبة الأحزاب السِّياسيَّة؛ لفشلها برأيهم في السَّنوات الماضية في مدّ البلاد بنموٍّ اقتصاديٍّ، وفي مدّ العِباد بفُرص العمل وتحسين مستوى المعيشة.

جاءت نتائج المعسكرات الحزبيَّة الثَّقيلة في الانتخابات متدنِّيةً جدًّا بحسب موقع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، رَغْم تمويلاتها الضَّخمة وتجاربها السِّياسيَّة القديمة، على حساب مرشَّحَيْن: أحدهما أستاذ قانون دستوريٍّ لم يحصل على تمويل لحملته، بل كان يطوف في المقاهي ليقابل النَّاخبين -ومعظمهم من الشباب-، ليحدثِّهم بتصوُّره للدَّولة وللبرلمان، في حين كان المرشَّح الثَّاني خلف القضبان بِتُهم تبييض الأموال والفساد، يقود حملته بشكل غير مباشر عبْر قناته التِّلفزيونيَّة، مستعطِفًا البسطاء، ومستثمِرًا اعتقاله.

‏الدُّروس المستخلَصة من الانتخابات، تعني النَّاخبين/ات والمرشَّحِين/ات معًا. فمن لا تعجبه الانتخابات ويقاطعها، فلن يستطيع إحداث تغيير برأيي؛ إذِ المقاطعة قد تَخدم أكثر المرشَّحِين "سُوءًا" في نظره. ثمّ إنَّ المرشّحِين المنتمِين إلى ما يُسمَّى "النُّخَب"، لم ينصهروا في هموم الشَّعب، وفضَّلوا التَّنظير عليه عبر القنوات التِّلفازيّة، الَّتي بدورها كشفت عن تَغوُّل جزء منها لضرب مرشَّح على حساب آخر، منتهكةً ميثاق الشَّرف الصِّحافيّ، وقيم النَّزاهة، والمصداقيّة -حتى لا نقول "الحياديَّة"-، لأنَّها باتت مِن عُرف المستحيل.

كمُواطِنة تونسيّة أدَّت واجبها الانتخابيَّ، ولم تعجبها النَّتيجة، أحترم نتيجة الصُّندوق أوّلًا، وأحترم تجربة الدِّيمقراطيّة النَّاشئة في تونس، مع هشاشة الوضع الاقتصاديِّ وتَشعُّب الأرضيَّة السِّياسيَّة. لكنَّ هذا المشهد في حدِّ ذاته ثريٌّ بالمعاني، يَكْسر المَشهد العامَّ القاتم في معظم الدُّول العربيَّة، الَّتي لم يحالفها الحظُّ لبسط أنموذج ديمقراطيٍّ.

إنَّ الدِّيمقراطيّة ليست صناديق اقتراع فقط. فكم مِن عمليَّة انتخابيَّة شابَها التَّدليس، وعُرف الكاسب فيها قبل أشهر من الانتخاب! في هذه الحالة، هي مجرَّد "انتخابات كرتونيّة" -حسب ما يقال بِلُغة الصِّحافة-، أيْ أنَّها مسرحيَّة وشكليَّة.

الدِّيمقراطيّة أيضًا ليست عملًا سياسيًّا فقط، بل أسلوب حياة، أتمنَّى لكلِّ مُواطن(ة) عربيٍّ أن يتذوَّقه. فهو ليس بالحنظل كما يدَّعي مناهضوها.

الدِّيمقراطيَّة -ومهْما حاولَت بعض الجهات في البلاد العربيَّة شيطنتها، وتَعثَّر جوادُها في بعضٍ منها، وأُلْقِي باللَّائمة عليها، وقيل إنَّها لا تَصلح للعرب-، هي صالحة لا طالحة.

الدِّيمقراطيَّة تَصلح للعرب، والعيب ليس فيها، بل في الصُّنّاع الَّذين أساؤوا التَّعلُّم من أخطائهم، وكان نفَسُهم قصيرًا، واستهْوَاهم الفساد. فظنُّوا أنُّه يأتي بكسب أكبر لهم، متجاهلين حقوق الأجيال القادمة في مناخ صحِّيٍّ، من حيث الحرِّيَّات والمساواة والاستقرار.

الدِّيمقراطيّة تحتاج إلى تقييم نقديٍّ. نعم، لكنَّ النَّقد لا يَنسف الدِّيمقراطيَّة، بل يعزِّز طُرق تطبيقها في مفاصل الدَّولة، ويوثِّق العلاقة بين الحاكم والمحكوم، دون استقواء الحاكم.

أنا أنظر إلى تونس. فكم تبدو الخسارات فيها اليوم صغيرة! صغيرة جدًّا أمام المكسَبَين العظيمَين اللَّذَين حُزْناهما: الحرِّيَّة والدِّيمقراطيّة. أنا اليوم وغيري من التُّونسيِّين/ات، باستطاعتنا أن نَنقد رئيس البلاد والحكومة والأحزاب كما نشاء، دون خوف من أن نَبِيتَ ليلتَنا في الزَّنازين، أو يُنكَّل بأهلنا مِن بَعدنا، أو يُجبر أحدُنا/إِحْدانا على حمل حقائبه/ها والهرب نحو المَنافي.

في أيلول نَعدُّ المكاسب، وهي أكبر من الخسارة. فالدِّيمقراطيَّة والحرِّيَّة ليستا سعادة وهميَّة ولا ترَفًا، بل انبلاجًا للمُواطَنة الكاملة، حين يمشي المُواطِن(ة) ممتلئًا بشعور الانتماء، على أرض صُلبة هي الوطن.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive