الرجوع

إيمان حيٌّ متوازن في عالَم مضطرِب

الإثنين

م ٢٠٢٠/٠١/٢٠ |

هـ ١٤٤١/٠٥/٢٥

بِصِفَتي أستاذًا يشتغل بالحوار بين الأديان، يُطلب إِلَيَّ في العديد من المناسبات أن أُقدّم مَدخلًا عامًّا إلى الدين الإسلامي لغير المسلمين، أو حتى إلى المسلمين الذين يحتاجون إلى إطار نظريّ ناظم. فلا أجدُ أفضل من "حديث جبريل"، وهو الحديث النبوي الذي يَروي دخول رجل غريب، لا تَظهر عليه آثار السفر، مَجلِسَ الرسول (ص). فيَقترب منه بطريقة تَنمّ على سابق معرفة ووُدّ، ثم يبدأ بِطرح جملة من الأسئلة عليه، مُعقِّبًا بعد كلّ إجابة للنبيِّ بقوله: "صدَقْتَ"؛ ما أثار تَعجُّب الصحابة. وبعد مغادرة الزائر، يَكشف النبيُّ عن هُويَّته قائلًا: "فإنّه جِبْريل أتاكُم يُعلّمكم دِينكم". هذا الحديث هو نصٌّ تعليميّ بامتياز، يتّبع منهج الحوار والتشويق؛ ما يجعله صالحًا للصغار والكبار، في المدرسة وفي الجامعة، حيث يأخذ منه كلُّ فريق قدر طاعتِه الاستيعابية. عادةً أُركّز في شرحي، على الأسئلة الثلاثة الأولى التي وردت في الحديث النبويّ السابق، وكلماتها المفتاحية: الإسلام، والإيمان، والإحسان. يُعرَّف الإسلام في هذا السياق بأركانه الخمسة: الشهادة (باعتبارها إعلانًا للانتماء الاختياري)، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ. كلّ هذه الأمور تُمثّل الجانب العملي الظاهر من الدين، ملخَّصًا في العبادات والشعائر. والطريف أنَّ كلمة "إسلام" هنا ليست مُرادِفًا للدِّين، بل هي جزء منه وتعبيرٌ عنه. أمَّا الإيمان، فيُعرَّف بأركانه السِّتَّة، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدَرِ خَيرِه وشرّه. وهذا يُمثّل التعبير الفكري والعَقَدِيّ عن الدين، أو لِنَقُل: الجانب الكلامي اللاهوتي، أو الفلسفي الميتافيزيقي. أمَّا البُعد الثالث، فهو "الإحسان"، والذي لُـخّص في: "أنْ تَعبد الله كأنّك تراه، فإنْ لم تكُن تَراه فإنّه يراك". هو جانب "الرؤية" المتبادلة، أو كأنها كذلك، لِمَن بَلغ مقامًا عاليًا في السلوك إلى الله، أو في حدّها الأدنى. وهو الشعور بأنَّ الله يرانا، والشعور بالحضور الإلهي في حياتنا. وهذا يُمثّل الجانب الروحي الصوفي في الدين، أو الجانب الخفيِّ الصامت. هو ذلك السِّرّ بين الإنسان وربّه، والتجربة الدينية الخالصة في ضمير المؤمن، وفي حياته الجُوّانيَّة. هذا التعريف الثُّلاثيُّ الأبعاد للدين، يُذكّرنا بتعريفٍ تقليديٍّ للإنسان يراه يتألّف من: جسد، ونفس، وروح. فالإسلام بمنزلة جسد الجماعة والجانب الاجتماعي من الدين، أو هو طُقوسٌ تُمثّل الخصوصية العملية، ولكنها تتشابه في العديد من تفاصيلها مع طقوس الأديان الأخرى وشعائرها. أمَّا العقيدة، فهي بمنزلة النفس، وهي جانب الهُويَّة الخاصة التي تُميّز الدين، كما تُميِّز النفسُ صاحبَها وتَرسم فَرادتَه. فلِكلّ دين جملةٌ من العقائد الأساسية، وإن اختلفت تأويلاتها وتقاطعت مع عقائد الأديان الأخرى. أما الروح، فهي نظير الإحسان والرؤية الباطنية. إنها جوهر الجوهر ومركز الدين والتديّن. وهي في الوقت نفسه الجانبُ الأكثر عالَمِيَّة وإنسانية في الدين، ومِن دونها يتحوّل الدين إلى خَوَاء وهَباء. ففي الإنسان شيء يصِلُه بالله، بِحُكم إنسانيته ذاتها. التوازن مسألة أساسية في تعريفَيِ الدين والإنسان. فالإنسان الحيُّ، مِثلُ الدين الحيِّ في الإنسان، يقتضيان حفظ التوازن بين الروح والنفس والجسد، وبين الإسلام والإيمان والإحسان، وبين العمل والفكر والصمت. يمْكن أن نتخيّل إسلامًا بلا إيمان ولا إحسان؛ إذ يصبح جسدًا ميتًا، ونَوعًا من الشكلانية المُفرَغة، أو الأصولية المغرورة، أو النفاق المَصلحيِّ، أو التظاهر خوفًا من الاضطهاد. أيضًا يمْكن تَصوُّر إيمان بلا إسلام أو إحسان؛ إذ يكُون تَديُّنًا نُخبَوِيًّا أو فلسلفة مجرَّدة أو ثرثرة تتسلّى بالدين. يمْكن أيضًا تَصوُّر الإحسان بلا إسلام أو إيمان؛ إذ يكُون نوعًا من الروحانية الانعزالية المستقيلة من العالم وشؤون الإنسان. أمَّا التجربة الدينية المتكاملة، فتَجِد سبيلها إلى التعبير في اللسان والجَنان، وفي القول والعمل، وفي الفكر والممارسة. إنَّ التفاعل بين هذه الأبعاد الثلاثة، التي يغذِّي بعضُها بعضًا، يعطي الخبرةَ الدينية حيَوِيَّةً فائقة، ويُثْريها ويعمّقها. فالفكر والعمل لا يأتيان إلَّا بعد لحظة الصمت والتأمّل؛ والكلام بلا صمت ثرثرة أو هذيان؛ والعمل بلا تأمُّل وفِكر ما هو إلَّا هَرولة واهمة عابثة. أمَّا أمراض التديُّن، فإنما تتأتَّى من عدم التوازن بين هذه الأبعاد. إنّ هذا التعريف الثُّلاثي الأبعاد للدين ليس خاصًّا بالإسلام، بل يمْكن تطبيقه على الأديان عمومًا. فهو يُمثّل فلسفةً للدين وبرنامجًا للإصلاح، إذا ما قرأنا النصَّ -لا باعتباره وصْفًا لدين بعينه- بقدر ما هو دعوة إلى التوازن والتفاعل بين مختلف عناصر الظاهرة الدينية، التي رُوحها لِقاءٌ بالله في الإنسان، يُشِعّ في مختلف مناحي الحياة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive