الرجوع

الأديان بين الصراع والوئام

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠٢/٠٦ |

هـ ١٤٣٩/٠٥/٢١

 

ألْقَتِ الانقسامات والصراعات بين الشعوب والجماعات بظلالها على أنماط التديّن ومضامينها، وحوّلت الأديان لدى البعض عن مساراتها كنماذج من الفضيلة والخير، إلى عقائد مغلقة لا تقبل الحوار ولا تعترف بالتنوّع والاختلاف. كذلك أدى طغيان النزعة العَقَدِيّة، وضعف النزعة المعرفيّة في الشأن الديني، إلى تفاقم سوء الفهم، وتَغلغُل دعوات الكراهية في مساحات واسعة من الخطاب الديني السائد.

أعطى القرآنُ مساحة كبيرة للحديث بِقَصَص الأقوام السابقة، وأَتْباع الأديان والشرائع المختلفة، لتَكُون مجال تأمل واعتبار، وهذا يؤكد أن تجارب الأمم وخبراتها الدينية، تُمثِّل ركنًا أساسيًّا من أركان البناء الديني الداخلي في الإسلام. وخلافًا للانتقائية السلبية التي تبحث عن أضعف تعبيرٍ لأتباع الأديان الأخرى وأسْوَئِهِ، وتقوم بعد ذلك بتضخيمه وتعميمه في الدين وأتباعه جميعًا، فإننا نجد القرآن يمتدح ما يستحق المدح لدى أتباع الأديان الأخرى، كما في قوله: {ليسُوا سوَاءً مِن أهلِ الكِتاب أمَّةٌ قَائمةٌ يتلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ اللَّيلِ وهُم يَسجُدونَ} [آل عِمران: 113]، {وَمِن أَهلِ الكتَابِ مَن إِن تَأمَنهُ بِقِنطارٍ يُؤدِّهِ إِليكَ وَمِنهُم مَن إِن تَأمَنهُ بدِينَارٍ لَا يُؤدِّهِ إِليكَ إلَّا مَا دُمتَ عَليهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأنَّهُم قَالُوا لَيسَ عَلينَا فِي الأميِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. وتشير الآية الأخيرة إلى أن القرآن يخطُّ منهجًا إيجابيًّا، يبحث عن الفضيلة ويمتدحها قبل أن يعرض للرذيلة وينتقدها. وهنا نجد الآية تبدأ بمدح أمانة أهل الكتاب، وتقدِّمها على نقد خيانة بعضهم، بل إن الآية تقدم تعليلًا واضحًا للنقد حتى لا يقع غيرهم فيه. ويُرجِع هذا التعليلُ سببَ المشكلة إلى خلل في المفاهيم: {ذَٰلكَ بِأنَّهُم قالُوا ليسَ عَلينَا فِي الأميِّينَ سَبِيلٌ}. وهنا يجب أن نستحضر أثر النظرة العنصرية التي أنتجَتها بعض الاتجاهات اليهودية، من خلال مفهوم "الجوييم" الذي يعني "الأغيار" أو "الأُمَمِيِّين"، وهم الشعوب الأخرى الذين ليسوا من شعب الله المختار! والواقع أن هذه النظرة تمثل ذريعة للتمييز والإساءة إلى الآخر المغاير، سواء في الدين أو العرق أو اللون.

وفي سياق هذا التفكير "الجوييمي"، ما نزال نستمع بين الفينة والأخرى إلى من يرفضون تسمية "الأديان" بصيغة الجمع لاعتقادهم أنها تخالف الإسلام! ولا يتنبَّهون على أن الإسلام هو حالة فطريّة قبل أن يكون تسمية مخصوصة لديانة بعينها، وأيضًا يُغْفل هؤلاء أن القرآن قد أطلق تسمية "دين" على عقائد وتعاليم متعددة، كما في قوله لأهل الكتاب: {قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ لَا تغلُوا فِي دينِكُم غَيرَ الحَقِّ} [المائدة: 77]، وفي ديانة قريش قبل الإسلام: {لَكُم دِينُكُم ولِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].

إن الإحساس الخادع بالكمال والامتلاء بالحقيقة المقدّسة، يُنتج نظرة استعلائية ازدرائية إلى كل من يخالف ملامح تلك الحقيقة. والواقع أن الكتب المقدسة لم تختزل الحقائق المطلقة للمقدس، بقدر ما فتحت أمام الباحث عن الحقيقة الدينية أفقًا واسعًا ومتجددًا. ويمكن لنا هنا أن نفهم لماذا لم يذكر القرآن أسماء كثير من الأديان التي كانت في زمن التنزيل: كالطاويّة، والبوذيّة، والكونفوشيوسيّة؛ ولماذا لم يذكر الأديان التي ظهرت بعد نزول القرآن كالسيخيّة، والبهائيّة؛ بل إن الأديان التي ذكرها القرآن، قد ظهرت فيها مذاهب جديدة تختلف في آرائها ومعتقداتها عن تلك التي كانت في زمن التنزيل، كما هو الحال مع فرقة القرَّائين اليهود، واليهوديّة الإصلاحيّة، واللوثريّة، والكالفنيّة، والمورمون في الديانة المسيحية. وهذا يعني أن القرآن جاء متَّسقًا مع الوعي الديني للعقل العربي زمن التنزيل؛ ولذلك لم يكن مَعنيًّا برصد جميع مظاهر الظاهرة الدينية وتمثُّلاثها، وإنما سعى إلى تقديم أنموذج إرشادي يُعين الإنسان على بناء معرفة موضوعية تجاه الأديان الأخرى.

ما تزال النظرة الانتقائية تحكم على الدين كله، وعلى جميع أَتْباعه في كل العصور، من خلال فهم محدود لنصوص دينية مقطوعة عن سياقاتها التاريخية والمعرفية. ومن العوائق التي تحُول دون الوئام بين الناس، الانطلاقُ من الأحكام المقدَّمة التي تمكَّنَت في وعينا الديني السائد، وجعلت كثيرًا من الناس لا يرَون في أتباع الأديان الأخرى سوى "مشركين" أو "وثنيِّين"، وفي أحسن الأحوال "ضالِّين" أو "مغضوبٍ عليهم".

على الرغم من التنوع الكبير الذي حظي به النسيج الاجتماعي العربي على مر التاريخ، إلَّا أننا لا نزال نشهد جهلًا كبيرًا ومتبادَلًا في معرفة المكونات الدينية والثقافية لذلك النسيج، ونعتبره مشكلةً تتصل بالتراجع الحضاري الذي تعيشه هذه المجتمعات، بالإضافة إلى ما يمكن تسميته بالتجهيل المُمَنهج، الذي تقوم به مجموعات منغلقة ترفض الانفتاح على التجارب الدينية الموازية؛ تحت ذريعة الخوف على الدين، أو الدفاع عنه.

لا يمكن الحديث بوئام حقيقي بين أتباع الأديان دون إصلاح التعليم، وبناء المواطنة، وتطوير القوانين التي تحترم حقوق الإنسان وتؤسس للتعددية الدينية والسياسية، ولا وئام بين أتباع الأديان دون الانفتاح وتحقيق التعارف بينهم، وعندما ندرك هذه الأبعاد المختلفة، نَعلم أن الوئام بين أتباع الأديان ليس احتفالًا موسميًّا للتقريب بين نصوص مرقومة على ألواح حَجرية، وإنما هو بحث مستمر عن معاني الخير والفضيلة، التي تتشوَّق إليها مجتمعاتنا الإنسانية المتنوعة.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive