الرجوع

الأسرة وأزمة التخطيط

الأربعاء

م ٢٠١٩/٠١/٠٢ |

هـ ١٤٤٠/٠٤/٢٥

مشاكل كثيرة تَعصف بالأسرة العربية، يجري غالبًا إرجاع أسبابها إلى الأوضاع المادية الصعبة. وهذا ليس سوى استسهال وإنكار لجوهر المشكلة، المتمثل بعدم قدرة الفرد العربي في بعض المجتمعات العربية، على التخطيط لحياته بنفسه، وسَيْره في تيَّار موحَّد مع السائرين، دون اقتناع في كثير من الأحيان.

البداية بالزواج نفسه، والذي يجب أن يندرج تحت بند الحرّيّة الشخصيّة للمرأة والرجل. فالرغبة في الزواج أو عدمه يُقرّرها الفرد نتيجةً لظروفه، واعتمادًا على وجود الشريك المناسب أو عدم وجوده.

الأمر في بعض بلادنا العربيّة مختلف تمامًا. فالزواج هو نصيب كلّ فرد بالغ عاقل رجلًا كانَ أم امرأة، أراد أم لم يُرد، وَجد الشريك أم وُجِد له، بناءً على معطياتٍ تضعها الأسرة، دون الالتفات إلى رغبة الفرد في تحمّل المسؤوليّة العظيمة مِن عدمها، أو هل كان له أحلام أخرى تتعارض معَ الزواج، كفكرة السفر والتركيز في العمل الذي يتطلّب مرونة وتنقّلًا؛ ما يضع الفرد العربيَّ غير المستعدّ، أمام احتمالات كثيرة بعد الزواج. أوّلها الصدمة مِن حمل المسؤوليّة، وعدم الاستعداد السابق لها، بل وعدم الرغبة فيها من الأساس، ثمّ الندم على خسارة الأحلام الأخرى، وفقدان الأمل بتحقيقها لاختلاف الأولويّات.

مشاعر قد يصاحبها الخذلان بعد رفع سقف التوقّعات مِن الشريك والحياة الزوجيّة، ثمّ الاصطدام بالواقع الذي تُؤثّر فيه عوامل كثيرة داخليّة تتعلّق بحقيقة شخصيّتَي الشريكَيْن، التي غالبًا لا تظهر قبل الزواج، في مجتمعات اعتاد الكثيرُ من أفرادها لُبسَ الأقنعة؛ للتماشي والتماهي معَ المُحيطِين بهم. وعوامل خارجيّة تتعلّق بالعائلة الممتدّة والتدخّلات والأوضاع المادّيّة، خصوصًا معَ الأزمات الاقتصاديّة التي تعصف بالشباب في أغلب المدن العربيّة.

أقرأ الكثير من الدراسات التي تتحدّث بأسباب الطلاق المختلفة، إلّا أنّني لا أجد -وأنا أتصفّحها- أسبابًا أعتقد أنّها أهمّ وأجدر بالمناقشة. وهي في أغلبها تعود لفترةِ ما قبلَ الزواج، وليس ما بعده، مثل: وجود الرغبة الحقيقيّة في الزواج عند الشريكَيْن، والاستعداد النفسيّ والمعنويّ لتحمّل المسؤوليّات، والمعطيات التي جرى على أساسها اختيار شريك الحياة، معَ التركيز على جملةِ "شريك الحياة" لأهمّيّتها، والتي –يا للأسف- تتناقض الآن معَ طريقة الاختيار في معظم الحالات؛ إذْ تعتمد على معطيات سطحيّة أبعد ما تكون عن عمق المعنى. ثمّ تأتي الخطّة والرؤية المشتركة للزواج، والحديث بأدقّ التفاصيل للأسرة قبل إنشائها، وأهمّ موضوع يجب التطرّق إليه هو الإنجاب.

الإنجاب كالزواج أيضًا، في معظم مناطقنا تحصيل حاصل، وأمرٌ واقع بغضّ النظر عن رغبة الزوجيْن. ففكرة تأخُّر الإنجاب، مع ارتفاع نسب الطلاق في العالم العربيّ وتشرُّد الأطفال، لا تزال فكرة غريبة. والمتوقَّع مِن كلّ عروسَيْن مقبِلَيْن على الزواج أنْ يكون الإنجاب لديهما في سُلّم الأولويّات، دون النظر إلى الرغبة الحقيقيّة عند الزوجيْن في تحمُّل مسؤوليّة طفل، أو حتّى الرغبة في الاستمرار في هذه المؤسّسة مِن الأصل، إضافة إلى الاستعداد المادي.

تحدّثتُ في أكثر مِن مناسبة سابقة بمفهوم "الكاتالوج" المُوحّد، الذي يُعطَى لكلّ فردٍ مِن أفراد المجتمع في مجتمعاتنا العربيّة، والذي يفرض أسلوبَ حياة واحدًا على الجميع، غيرَ آبِهٍ بالرغبات الشخصيّة والاختلافات بين البشر، ولا باختلاف طبيعة الحياة المعاصرة وصعوبتها. فمَن يَحِدْ عن هذا "الكاتالوج"، يضَعْ نفسه في مواجهة مع المجتمع ككُلّ، كأنّه شخص ناقص، في حين مَن يُسايِرْهُ على عكس رغباته، يَعِشْ تعيسًا متعبًا، غيرَ راضٍ عن نفسه، أو في كثير مِن الحالات قد يُقرّر الانقلاب على المجتمع كلّه، في مرحلة عمريّة مُعيّنة، واضعًا كلّ شيء خلفه، غيرَ آبِهٍ بالمسؤوليّات التي تركها وراءه.

أفكار كثيرة خاطئة نتداولها لتبرير أخطائنا في التخطيط، مثل: "يأتي الولد ورِزقُه معه"، و"المرأة فُطرت على الأمومة"، وغيرهما من الجمل التي نُردّدها. والواقع أمامنا يُثبت خطأها. فليس كلُّ امرأة مفطورة على الأمومة، بدليل وجود أطفال مهمَلِين يُساء معاملتهم، حتى من أمهاتهم. أمَّا الرزق، فهو لا يأتي إلّا إلى مَن يسعى له. وإنِ افترضنا أنّ الرزق المادّيّ موجود، فليس كلّ الرزق مالًا. الحبُّ رزق، والحنان رزق، والاهتمام والجوّ الأُسَريّ الدافئ رزق. وبغير هذه الأرزاق لن ينموَ الطفل في أجواء سليمة، وعلى كلّ مُقبل على الإنجاب (رجلًا كان أو امرأة)، أنْ يُفكّر هل كان قادرًا على هذا العطاء، وهل كانَ يملك من الإيثار ما يلزم لبناء أسرة. فالأطفال لا يقتلهم الفقر كما يقتلهم الإهمال.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive