الرجوع

الأقليات وشيطان الديمغرافيا

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠٢/٢٠ |

هـ ١٤٣٩/٠٦/٠٥

 

سعى الاستعمار دومًا إلى استغلال الاختلالات بين الأقلية والأكثرية، كما هو الحال في استغلال الاحتلال البريطاني لمشكلة الأقلية السِّيخية في الهند، والتي كانت تعيش حالة من الصراع مع أكثرية "هندوسية" وأخرى "مسلمة"، ونجح الاحتلال في توظيف ذلك الصراع باتجاه إضعاف النسيج الاجتماعي الهندي، وتحقيق مصالحه الجشعة.

وخلافًا للتحولات السكانية التي حدثت على مدى قرون طويلة في مكونات النسيج الاجتماعي الديني في العالم العربي، ونتج منها تغيرات في النسب السكانية، عمل الاحتلال الصهيوني على إحداث تغييرات جوهرية في المكونات السكانية للمجتمع الفلسطيني، وأصبح العرب الفلسطينيون "أقلية" في وطنهم بعد نكبة عام 1948. وبعد تهجير مئات الآلاف من العرب، ما تزال الأصوات الصهيونية تدعو إلى طرد ما تبقَّى من الأقلية العربية من فلسطين، من خلال التخويف من "شيطان الديمغرافيا"، والحديث بمخاطر زيادة أعداد الفلسطينيين على مستقبل يهودية إسرائيل.

يذكر القرآن أن المسلمين الأوائل عاشوا حالة من الإحساس بالقلَّة والاستضعاف، كما في قوله تعالى: {واذكُرُوا إِذ أَنتُم قلِيلٌ مُستَضعَفونَ في الأَرضِ تخافُونَ أَن يتخطَّفكُم النَّاسُ فآواكُمْ وأَيَّدكُم بنَصرهِ ورزَقكُم منَ الطيِّباتِ لعَلَّكُم تَشكُرُون} [الأنفال: 26]. ويكتسي مفهوم الأقلية في القرآن دلالة إيجابية ترتبط بمعنى المفاضلة السلوكية، كما في قوله تعالى: {وقَلِيلٌ مِن عبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وهذا يدل على أن الأكثرية ليست مرادفة للحق، ثم إنّ الأقلية ليست بالضرورة على خطأ أو ضلال.

واللافت للنظر أن وصف "القِلَّة" بطريقة يشوبها الاستخفاف والاحتقار، قد جاء على لسان فرعون عندما وصف بني إسرائيل {إنَّ هؤُلاءِ لشرذِمَةٌ قلِيلُون} [الشُّعَراء: 54]. وهذا الاحتقار للأقلية يمثِّل نظرة النُّظم القمعية، التي تستقوِي باسم الأكثرية على المستضعفين في مختَلِف العصور والبلدان.

تتخذ تسمية النخبة وهم "أقلية" مفهومًا إيجابيًّا، عندما تتصل بالنخبة المثقفة التي تمثِّل صفوة المجتمع، وهذه الصفوة من المفكرين والعلماء، هي التي تقود مجتمعاتها نحو التقدم والإبداع. وفي مقابل هذا المعنى، يتخذ مفهوم الأكثرية أحيانًا معنى سلبيًّا عندما يترادف مع مفهوم العوام أو الرَّعَاع.

شعور الأقلية بأنها تعيش تحت حماية الأغلبية، هو شعور محبِط يمنعها من المطالبة بحقوقها المتساوية، وهو ناتج من فشل الدولة في تحقيق الحماية والعدالة لجميع مواطنيها.

تزداد دواعي الشعور بالانفصال، والإحساس بالتميز عن الأكثرية، عندما يجتمع الشعور بالانتماء إلى أقلية عرقية وأخرى دينية في الوقت ذاته، فالأقليات "المركبة" هي أكثر ميلًا إلى الاستقلال والعزلة، عن غيرها من الأقليات "البسيطة" التي غالبًا ما تندمج في مكونات المجتمع الذي تعيش فيه.

لا يمكن القول بأن الأقليات على جميع أصنافها تعيش حالة من الظلم أو الاضطهاد، فهناك من الأقليات "الذكية" التي يفوق تأثيرها تأثير الأكثرية، كما هو حال اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.

هناك علاقة وطيدة بين تقدم الدول وتنوع المكونات السكانية الدينية والعرقية، ويكفي هنا أن نتأمل في المجتمع الماليزي، كأنموذج من المجتمع الناجح في بناء علاقة بين الأكثرية "المسلمين"، والذين يشكلون بحسب إحصاء سنة 2000 ما نسبته 60.4%، وبين الأقليات المتعددة التي تشتمل على البوذيين 19.2%، والمسيحيين 9.1%، والهندوس 6.3% ، بالإضافة إلى أتباع الأديان الكونفوشيوسية والطاوية الذين يشكلون نحو 2.6% من مجمل السكان.

ليس المطلوب أن تتخلى الأقلية عن خصوصيتها من خلال الانصهار أو الدمج القهري في الأكثرية، وإنما المطلوب هو تقوية النسيج الاجتماعي، الذي يشكل بمجموعِه الهوية الوطنية الجامعة.

يدرك العقلاء أن النضال من أجل إعطاء الأقلياتِ الحقوقَ المتساوية، هو جزء من النضال المدني الذي يرتقي بالمجتمع ويحقق مصلحة الجميع. فالنسب الديمغرافية قد تتغير، وتصبح الأكثرية أقلية، والأقلية أكثرية، وَفْق المعايير العددية. وعندما تنجح المجتمعات في بناء قيمَتَي العدالة والمساواة بين جميع أبنائها، فإنها تضمن لنفسها مستقبلًا أفضل، مَهْما اختلفت الأعداد والنسب.

 

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive