الرجوع

الأمل في المرأة والأقليات لترسيخ الديمقراطية

الإثنين

م ٢٠١٩/٠١/٢١ |

هـ ١٤٤٠/٠٥/١٥

كلمة "أقلِّيّة" لا يُرحَّب بها عادة في ظلِّ ديمقراطية راسخة، لأنها قد تعني الدُّونيّة أو المواطَنة من الدرجة الثانية، في حين تؤكّد الديمقراطيةُ المواطَنةَ الكاملة بغضِّ النظر عن أيِّ اعتبار آخر. لا يعني هذا إنكار وجود الأقليات كحقيقة موضوعية، حتى في حال نضوج الديمقراطية، عِلمًا أن الديمقراطية الحقَّة لا تعني "ديكتاتورية" الأغلبية، بقدر ما هي احترام الأقلية. فلا ينبغي لها أن تُسْحق أو تهمَّش بِاسم فرض رأي الأغلبية. هنا تصبح الأقلية "المعيار" للحكم على التجربة الديمقراطية، أَإِنْ كانت بالفعل كذلك، أمْ مجرد واجهة خادعة.

هناك مشكلة حقيقية في تعريف الديمقراطية على أنها ديكتاتورية الأغلبية. فالأغلبية في الديمقراطية ليست دينية، أو عِرقية، أو جِهَوِيَّة، بل هي رأي أو مشروع سياسي جرى الاتفاق عليه من قِبَل معظم نوَّاب الشعب، ليتحوّل إلى قانون ساري المفعول على الجميع. فعندما نقول "الأغلبية"، لا يذهبنَّ ذهننا إلى أغلبية السكان، إن كانوا مثلًا من الشيعة أو الكاثوليك أو العرب أو الأكراد. تلك حقائق ديمغرافية على الأرض لا يمكن إنكارها، ولكن الأحزاب السياسية الحقيقية ليست تعبيرات طائفية أو إثنيَّة، بقدر ما هي التعبير المنظَّم عن مشاريع سياسية، أيْ أفكار ورؤًى حول تسيير شؤون الدولة والمجتمع. عندما تتحوّل الأحزاب إلى مجرد تعبيرات عن انتماءات سرمدية ولاعقلانية ووراثية، فهذا يعني وجود مشكلة عضوية في صميم البُنْية السياسية. وهي بُنْية ظاهرُها الديمقراطية، وباطنها القبائل والعشائر والطوائف والعائلات والمافيات. الأغلبية الديمقراطية شيء آخر تمامًا. إنها تتمخّض عن صراع سِلْمي على رؤًى ومشاريع تجري مناقشتها عقلانيًّا تحت قبَّة البرلمان.

الأمر نفسه ينطبق على الأقلية. فهي التعبير الحزبي أو الائتلافي، عن الأفكار التي لم تَفُز بالأغلبية ضمن النقاش السياسي. وهي تمثِّل مصالح فئات معيَّنة في المجتمع، لها الحقُّ مِثل غيرها في الوجود والتعبير والعمل، ضِمن ضوابط الدستور والقانون الديمقراطيَّيْن. وقد تكُون بالفعل الأقليةُ دينيةً أو لغوية أو جنسية، ولكن يُفترض -كما ذكَرتُ- في الديمقراطية الناضجة، ألَّا يَحتكر فيها هذه الفئاتِ حزبٌ بِعينه.

لمّا كنّا نعيش في مجتمعات غير ديمقراطية، أو تسير ببطء نحوها، أو حتى في مجتمعات عريقة في ديمقراطيتها، ولكنها تعيش حالة تأزُّم وتراجُع؛ فعلينا أن نتعامل مع الواقع كما هو، لنعمل على تعديله وتحسينه. معياران أساسيَّان -في رأيي- لتحسين الوضع السياسي، يتمثَّلان بالأقليات والمرأة. المرأة هي أيضا "أقلية" سياسية في مجتمع سياسي، يحتكره أو يهيمن عليه الرجال. وهنا يكمن الأمل في التغيير، من خلال اندماج المرأة والأقليات المكونة للمجتمع -ولو بشكل تدريجي- في بُنًى وهياكل لِمختلف الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني. هذا هدف إستراتيجي، في سبيل ترسيخ القيم الديمقراطية كثقافة مجتمعية.

يسعى المشروع الديمقراطي لتأسيس دولة ما بعد قومية أو ما بعد دينية؛ لأن الدولة التي تأسَّست على أيديولوجية دينية أو قومية، تهمِّش بالضرورة جزءًا من مكوِّنات مجتمعها. فهي تختار تعسُّفًا "بروفايل" المُواطن الممتاز من الدرجة الأولى، وتُقْصي كلَّ من لا يتفق جزئيًّا أو كليًّا مع ذلك البروفايل. ومن هذه الناحية، هناك تقاطُع كبير من الاتِّجاهَين القومي والديني، والفارق فقط في تحديد الأولويات. وأحيانًا تكُون الأغلبية الدينية أو القومية مصطنَعة، أيْ لا تُمثّل الواقع. فسرعان ما يُنتقم منها بديكتاتورية ذات واجهة ديمقراطية معكوسة، عند أول فرصة.

أيُّ تَقدّم في طريق الديمقراطية، يَعْنِ تحرير الأقليات والأغلبيات معًا من غُلّ التمييز المُخِلّ بالمساواة بين المواطنين. وهذا يعني تجاوُز نموذج الدولة القومية أو الدينية، لكي تصبح مكونات المجتمع مُطْمَئنّة إلى مواقعها ومصالحها، من دون اللجوء إلى استعمال الإقصاء والتهميش السياسيَّيْن أو الاقتصاديَّيْن. المشكلة أن الديمقراطية، من الناحية التاريخية، وُلِدت في حضن الدولة القومية، وحان الأوان لتتجاوزها، فتَبلغ مدى تطوُّرها.

المشكلة ليست إسلامية فقط، بل هي عالمية. فالفزّاعة التي تستخدمها الأحزاب الشعبوية في أوروبا وأميركا -شمالًا وجنوبًا- لجَلْب الأصوات، هي تَزايُد المهاجرين الذين يمكن أن يَستخدموا قواعد الديمقراطية، لكي يهدِّدوا مصالح "الأغلبية" القديمة المهيمِنة. فوجود الأميركيِّين من أصول لاتينية وكاثوليكية نتيجة الهجرة، قد يجعل من الناطقين بالإسبانية والكاثوليك، الأغلبيَّةَ الجديدة، في مجتمع سادت فيه الأغلبية البيضاء البروتستانتية الناطقة بالإنكليزية. هذا ما يفسّر حرص الرئيس الأميركي على بناء الجدار. أيضًا بات مصير المسلمين في أوروبا، أن يكونوا معيار الديمقراطية فيها، لا تهديدًا لها.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive