الرجوع

الإسكندر والقُرصان

الثلاثاء

م ٢٠١٩/٠٤/٠٢ |

هـ ١٤٤٠/٠٧/٢٧

يُروى أن قُرصانًا وقع في أسْر الإسكندر الكبير، فسأله: "كيف تَجرُؤ على إزعاج البحر؟ كيف تَجرُؤ على إزعاج العالَم بأسره؟". فأجاب القُرصان: "لأنني أفعل هذا بسفينة صغيرة فحَسْب، أُدْعى لصًّا، وأنت الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم تُدعَى إمبراطورًا". ذَكر هذه القصة "نعوم تشومسكي"، في مقدمة كتاب "قراصنة وأباطرة"، وذكَرها قبله جورجي زيدان في كتابه "خلاصة تاريخ اليونان والرومان". إلّا أن إجابة القرصان وَفْق رواية جورجي زيدان، كانت: "إن الحقَّ الذي يُخوِّل لي السرقة، هو نفسُ الحقِّ الذي يُخوِّل لك الافتتاح، وإنما الفرق بيني وبينك أن أتباعي قليلون، وأضراري قليلة، أمَّا أنت فأتباعك كثيرون وأضرارك كثيرة".

 بعيدًا عن الخوض في مَوثوقيّة هذه القصة، فإن مغزاها العميق ما يزال حاضرًا في واقعنا الإنساني المعاصر. فالحوار الذي دار بين الإسكندر والقرصان، يستمرُّ اليوم بين القراصنة الصغار والطُّغاة الكبار في واقعنا الراهن، حيث يُحارَب إرهاب الجماعات الصغيرة التي تَظهر فجأة وتختفي، في حين يُسوَّغ استبداد دول كبرى، لا تعترف بِسِوَى شرعيّة مصالحها الضيِّقة! فبِمَاذا لنا اليوم -ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين- أن نصِفَ دولًا تحتقر القانون الدُّوَلي، وتُشرِّع الاحتلال والعدوان؟ وكيف لنا أن نفرِّق بين هذه الدول "المعاصرة"، والإمبراطوريّات القديمة المستبِدَّة، التي كانت تقوم على تأليه الإمبراطور، وفَرْض هيمنتها بالقوة على الأمم والشعوب؟

عندما يجتمع اعتقاد التفوُّق العِرقي أو الديني مع عوامل القوة المادية، فإن ذلك يُمثِّل أَسْوَأ صيغةٍ للحُكم، مهْما كانت أشكال النُّظم السياسية التي أنتجَته. فالديمقراطية وإن كانت أقرَبَ صيغة لتحقيق مصالح الشعوب، إلّا أنها ما تزال مخترَقة من الدوائر ذات المال والنفوذ. فيُمثِّل استغلالُ الأقوياء للدِّين، الشكلَ الأكثر قُبحًا وتشويهًا للمضامين الروحية والأخلاقية، التي ينطوي عليها الدين. ونرى حجم التزييف، عندما تقُوم دولة لا يشير دُستورها إلى أيِّ كلمة عن الدين، باستغلال الدِّين، وتسويغ العنف أو الاحتلال، الذي يقوم به الكيان الصهيوني على سبيل المثال. وهنا، نَذكر الباحث الأميركي "ستانلي هوفمان"، عندما قال: "تأليه القوة يمثِّل القاسم المشترك لدى المحافظين الجُدد". وهذا بحسب "هوفمان"، جاء نتيجة لـ"رؤيتهم الانتقائية والتحريفية، حول الكيفية التي يجب بها استخدام القوة".

تتراجع الدول وتَسقط، عندما تختلُّ فيها مَوازين القيم، وتُسوَّغ فيها أشكال الاستبداد والعدوان. ويَشهد التاريخ الإنساني على أن الاغترار بمنطق القوة، يؤدِّي في النهاية إلى الهزيمة والتراجع والسقوط، وأن طغيان الأقوياء يُفْضي إلى إضعاف القيم الحضارية. ويؤكِّد القرآن علاقة الاستكبار في الأرض والشعور بنَزَعات القوة، في سياق حديثه بالأُمم الظالمة: {فأمّا عادٌ فاستكبَرُوا في الأَرضِ بِغَيرِ الحقِّ وقَالُوا مَن أشدُّ منَّا قوَّةً} [فُصِّلَت: 15]. وإضافةً إلى المعضلة الأخلاقية التي تعانيها الدول المستكبِرة، فإنها تدمِّر الإحساس بالمشترَكات والجوامع الإنسانية بين الأُمم. فسيادة منطق القوة في العلاقة بين الأمم والشعوب، تجعل الصراع أو الاستغلال، الصيغة المُثلَى لتلك العلاقة.

لا بد من إعادة النظر في المضامين الأخلاقية للنظم الديمقراطية، التي تُنتج زعامات مستبِدَّة وعنصرية، لا تحترم كرامة الشعوب الأخرى وحقوقها المشروعة. فالديمقراطية التي تقتصر في مضامينها الإنسانية على بقعة جغرافية، أو مجموعات بشرية بعينها، ليست سِوَى صيغة أخرى للتمييز بين الناس.

يَنتقد المسيح عليه السلام منطق القوة، لِمَا يَؤُول إليه من هلاك أتباعه، بقوله: "لأنَّ كلَّ الَّذين يَأخُذون السَّيفَ بالسَّيف يَهلِكون" (متى 26: 52). ويشير سِفْر صموئيل إلى أن الغلبة بين الناس ليست بالقوة: "لأنه ليس بالقُوَّة يَغْلِبُ إنسانٌ" (صموئيل الأول 2: 9) . وهذا يعني أن الانتصار الحقيقي لا يكون من خلال القوة ذاتها؛ وإنما بإدراك أن الحكمة تستعلي على القوة، بما تتضمّنه من معرفة وفهم وتَعقُّل: "الحِكمة خيرٌ من القُوَّة" (الجامعة 9: 16). وما دامت القوَّة مُتاحة للجَهَلة والسُّفهاء، فهي دون الحكمة التي لا يدركها إلّا العقلاء الأسوياء. وهذا يجعلنا نَخلص إلى القول، بأن الطغيان تجاه الآخرين، هو امتداد لمشكلة الإنسان مع ذاته، ونتيجةٌ لاختلال منظومته القيمية، وتَوهُّمه التفوُّقَ والتفرّد والاستعلاء.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive