الرجوع

الإيمان والحب

الإثنين

م ٢٠١٧/٠٦/٠٥ |

هـ ١٤٣٨/٠٩/١١

يتردد مفهوم الإيمان لدى عموم أتباع الأديان بين معنيَين أحدهما يتجه إلى اعتبار الإيمان تصديقًا عقليًّا لمقولات نظرية، تمثل إجابات لأسئلة كبرى تتعلق بمصير الإنسان ووجوده. وعادة ما تتصل هذه المقولات بتصورات غيبية لكائنات وعوالم علوية، لا طاقة لعقل الإنسان بإدراك حقيقتها. وأما المعنى الثاني فيتجه إلى اعتبار الإيمان شعورًا عميقًا بالأمن والرجاء، يتصل بقلب الإنسان وعواطفه، ويحفز إرادته نحو العطاء والتضحية.

إذا انطلقنا من هذا المفهوم الأخير للإيمان، فإن مساحة التشابه بين الإيمان والمحبة تصبح مفتوحة على أوجه كثيرة يصعب على الإنسان حصرها. وإذا أردنا البحث عن صلة الإيمان بالمحبة وأيهما يسبق الآخر، فإننا نجد هنا كلامًا للرسول الأكرم يشير فيه إلى الإجابة عن هذه الإشكالية "والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تَحابُّوا" (رواه مسلم). فالبداية كما في هذا الحديث، تكون من المحبة بين الناس التي تحقق غاية الإيمان وجوهر الدين.

وفي حديث آخر تتوضح أوّليَّة المحبة على الإيمان بقول المصطفى: "مَن أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ اللهُ لقاءَه". فالله لا يَلْقَى إلا من يُحب لقاءه، ولقاء الله هو غاية رجاء المؤمنين. لكننا في نصوص أخرى نجد أن المحبة تتبع الإيمان، وتكون نتيجة وثمرة للإيمان، كما في قوله تعالى: {والَّذين تَبوَّؤُوا الدارَ والإيمان مِن قَبْلِهِم يُحبُّون مَنْ هاجَر إِلَيْهِم} [الحشر: 9].

إن أعظم معاني المحبة يتمثل بمحبة الله للإنسان، وهي المحبة الكاملة التي يسعى الإنسان إليها، وهذه المحبة نجدها في قوله تعالى في حق موسى {وأَلقَيتُ عليكَ محبَّةً مِنِّي ولِتُصنَعَ على عَينِي} [طه: 39]. فالمحبة الإلهية لموسى عليه السلام سبقت خلقه، كما سبقت إيمانه ومعرفته.

ومن أوجه التشابه الكثيرة بين الإيمان والمحبة، أن المؤمنين لا يرتضون شريكًا لخالقهم، ولا يقبلون قِبْلَة سوى قِبْلته، والمحبون لا يرضون شريكًا ينازعهم في حب محبوبهم.

والمؤمنون يرون وجه خالقهم أينما ولَّوا وجوههم، وهكذا عيون المحبين توشك أن لا ترى شيئًا في الوجود سوى وجه ذلك المحبوب. والمؤمن لا يَقرُّ له قرار حتى يسكن مع محبوبه في الجنة. المحبون يعظم بلاؤهم وتشتد آلامهم، في سبيل الوصل مع محبوبهم.

الإيمان يصعب على العقل تفسير بعض أسبابه والتحقق من معرفة بواعثه، وكثيرًا ما نجد بين أعظم العقلاء من يؤمن بعقيدة يراها غيرُه ساذجة لا منطق فيها، فيقدس النجوم والأشجار والجبال والحجارة، فكذلك المحبّون يعشقون دون أن يكون لديهم تفسير لما قد وقعوا فيه.

الإيمان لا إكراه فيه، وكذلك المحبة، فكلاهما ينبع من قلب الإنسان حيث لا سلطة لأحد عليه.

تتعدى صورة الإيمان ومكانته في القلب، الرسوم والرموز والكلمات. وهكذا تتعدى صورة المحبوب ومكانته في القلب لونه ودينه، فالمحبوب يبقى هو الأجمل بين الأغيار.

المؤمنون يطوفون حول معابدهم ليقتربوا من محبوبهم، وهكذا يطوف المحبون حول محبوبهم لينظروا إلى جماله من كل زاوية، ويحيطون به من كل مكان.

الإيمان يكشف فقر الإنسان وعبوديته للخالق، وكذلك الحب يفعل بأهله عندما تذلّ نفوسهم، وينكشف ضعفهم أمام من يحبُّون.

المؤمنون يهاجرون ديارهم من أجل الحفاظ على إيمانهم، والمحبّون مستعدون للتضحية بأموالهم وديارهم فداء لمن يحبون.

تتمثل أجمل صور الجمع بين إيمان المحبين وحب المؤمنين، بأشعار الحب التي باح بها أهل العرفان، أمثال ابن الفارض بقوله:

وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب               وإن ملتُ يومًا عنه فارقت ملّتي

يصل الإيمان إلى أعظم مبتغاه عندما تصدر محبة الإنسان لله من كل قلبه، ويرافقها في الوقت نفسه محبة الإنسان لأخيه الإنسان، وهذا ما نجده في أعظم وصية أشار إليها المسيح عليه السلام: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبَك كنفسك" (لوقا 10: 27).

إن الله هو غاية المحبين، وهو تعالى المُحِبُّ الذي سبقت محبته محبَّة المُحِبين جميعًا، وما أحبَّ مُحِبٌّ من رسوم الخلق، إلا بجذوة نار اقتبسها من نار ذلك العشق القديم.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive