الرجوع

الاتِّصال بين الإنسان والله

الثلاثاء

م ٢٠١٩/٠٩/١٧ |

هـ ١٤٤١/٠١/١٨

أُحاول هنا أن أُوجِد مُقاربةً لمفهومَي الوَحْي والإلهام، وذلك لأنَّهما يُدْرَسان غالبًا من خارج النَّفس الإنسانيَّة؛ باعتبار كَونهما مادَّتَين، يَستمدُّ منهما الإنسان المعرفة الإلهيَّة، دون أن يكُون لديه علاقةٌ بتَشكُّلهما. ولن أَركن هنا إلى التَّعريفات؛ وإنَّما أقدِّم رؤيةً، أرجو أن تُحلَّ بها بعض الإشكالات المفهوميَّة، وسأَدْرس هذه المقارَبة في ظلِّ البُعد الإسلاميِّ.

الوحيُ والإلهام، كِلاهما اتِّصال بين الإنسان والله. ففي الوحي، يختار الله نبيًّا من البشر، لِيُرسل بواسطتِه تعاليمَه إليهم. والإلهام كذلك، هو اتِّصال بين الإنسان والله، لأجل هداية الإنسان، لكنَّه لا يختصُّ بالأنبياء وحدهم؛ وإنَّما هو عامٌّ في البشر، أيْ أنَّ كلَّ إنسان يَحصل لدَيه إلهامٌ بطريقةٍ أو بأخرى. لذلك، لا حاجة إلى نقْلِه إلى الآخرين، لأنّ لكلِّ إنسان تجربته الخاصَّة. وأصْلُ هذا الاتِّصال في الحالَين، هو تلك الرُّوح الَّتي نفخها الله في الإنسان، فجعلَتهُ دائم الاتِّصال به.

بعيدًا عن إشكالات اللُّغة، وبحسب القرآن، فإنَّ تَعقُّل الوحي والإلهام مَحلُّه القلب. فالوحي ليس صوتًا خارجيًّا يَسمعه النبيُّ محمَّد، بل يجده في قلبه مُنزَلًا عليه من الله، عبْر المَلَك جبريل، في حين الإلهامُ يجده الإنسان في قلبه مباشرة، قادمًا إليه من الله. ولذلك، لا وحْيَ أو إلهام خارجَ الإيمان بالله، وبأنَّه خالق الإنسان ونافخٌ فيه من روحه.

لقد حفِظ الله الوحيَ القرآنيَّ، لأنَّه كلمته الخالدة إلى خلقه، بيْدَ أنَّ مفهومه قد تعرّض لِلتَّبديل والخلط، وذلك لِكَونه يعالج منطقة احتكاك الاجتماع البشريِّ، بحيث إنَّ أصحاب كلِّ معتقَد يَشدّون الوحي نحو منظومتهم الدِّينيَّة. ثمَّ إنّه أُضيفَ إليه الكثير من النُّصوص المنسوبة إلى النبيِّ، وأُقْحِمَ في معناه أفهامُ الفقهاء والمتكلِّمين والمفسِّرين وأضرابِهم، وزُعم أنَّها هي الأخرى وحيٌ، أو لا يمكن فهمُ الوحْي من دونها. وسنجد مِثل هذا التَّداخل، حاصلًا في الإلهام أيضًا. فمع أنَّه تجربة فرديَّة، لكنَّه تَحوَّل في كثير من الأحيان إلى حجَّة على الآخر، بل لقد استُدعيَت تلك الإلهامات الَّتي حصلَت في يقظة أو في رُؤْيَا منام، في الصِّراع بين الآراء العَقَدِيَّة والفِقْهيّة. لذلك، لا بدَّ أوّلًا عند معالجة مفهومَي الوحي والإلهام، من تحرير معناهما، وتخليص ما عَلق بهما.

أهمُّ مُرتكَز في هذا التحرير، هو ألَّا يرِدَ تَصوُّر الاختلاف بين الوحي والعقل، وبين الإلهام والعقل؛ وذلك لأنَّ العقل هو بالأصل وَضعٌ من الله، كما أنَّ الوحي والإلهام هما من عند الله أيضًا. إنَّ عدم الفصل بين منطقة الصِّراع البشري الَّذي يولِّد الأهواء، ومنطقة التَّعقُّل القادر على الاسترشاد بالوحي والإلهام، هو إشكال ينبغي للإنسان أن يَحلّه، لا أن يَنسف معطيات العقل، أو يرفض نصَّ الوحي، أو لا يَعتبر بإشارات الإلهام.

الوحي والإلهام، كِلاهما باعثان على الإيمان بالعدالة الإلهيَّة. فإنْ لم تتحقَّق في الدُّنيا، فتَستلزم الإيمان بتَحقُّقها الأُخرويِّ. ويتميّز الوحي عن الإلهام، بأنَّ فيه تفاصيل ما سيحدث في الآخرة؛ وأمَّا تفاصيل مستقبل الغيب الدُّنيويِّ، فليس من وظيفتهما، وإنْ كانا يمُدَّان الإنسان بإشارات عامَّة ومهمَّة، تُوجِّهه إلى العظة والاعتبار. وإنَّ أهمَّ عنصر للانتفاع بالوحي والإلهام، هو الأخلاق. فالنَّبيُّ على خُلُق عظيم -بحسب وصف القرآن-، ولا يمكن الانتفاع بوَحْيه من دون الْتزامٍ أخلاقيٍّ راقٍ. ثمّ إنّ مِن شروط الإلهام السُّلوكَ القائم على الأخلاق الفاضلة، ومجاهدةَ النَّفس لجعلها سوِيَّة، حتى تستطيع أن تستلهم معاني الوجود الإلهيِّ.

كما أنَّ الوحي يرتكز على التَّعقّل في تصديقه والحُكم على مصدريَّته، حيث إنَّ العقل والوحي مَصدرهما الله؛ كذلك هو يستند أيضًا إلى الإلهام في فهم دلالته الحكيمة، واستبطان معانيه وحُجَجه ومقاصده. وهنا، يكُون الفرق بين الفِقه والإلهام. فالفِقه هو تعامُل خارجيٌّ مع نصِّ الوحي عبْر دلالات اللُّغة، وتراكيبها المتغيّرة والمتطوِّرة؛ إذِ الفقيه لا يُراعي غالبًا هذا التَّغيّر، ويَرضخ في أحكامه لمَقولات اللُّغة لَحْظة تدوينها. أمَّا الإلهام، فإنَّه يُدخِلُ النَّصَّ في تجربة الإنسان الدَّاخليَّة، ليستلهم معانيه ومقاصده، ثمّ يصبح النَّصُّ جزءًا من ذات الملهَم، فيجتمع لدَيه مَصدران إلهيّان: الإلهام باعتباره اتِّصالًا باطنيًّا؛ والوحي باعتباره قادمًا إليه عبْر النَّبيِّ.

لكي يَحصل التَّوافق بين الوَحْي والإلهام، ينبغي عرْضُهما على إلْزامات الأخلاق الإنسانيَّة ومُحْكَمات العقل الكلِّيَّة. وكما لا يَحصل هَدْيٌ من الوحي والإلهام مِن دون إلْزامات الأخلاق ومُحكَمات العقل؛ فكذلك يتعكّر هذا الهَدْي بحمولة الفقه وركام التأريخ، اللَّذَين يُضافان إلى الوحي والإلهام الإلهيَّيْن.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive